Page 273 - merit 52
P. 273

‫‪271‬‬  ‫ثقافات وفنون‬

     ‫شهادات‬

     ‫صالح “استيقظت ثاني يوم‬                               ‫فالتر بنيامين‬              ‫الطيب صالح‬
  ‫وصولي في فراشي الذي أعرفه‪،‬‬
                                        ‫الفرد عند تواجده في القرية أو‬       ‫أخبرتني صديقة لي أنها تحس‬
   ‫في الغرفة التي تشهد جدرانها‬         ‫عند عودته من المدينة‪ ،‬يقول “لما‬        ‫بقيمة ذاتها فقط عندما تعود‬
   ‫على ترهات حياتي في طفولتها‬
 ‫وفي مطلع شبابها”‪ ،‬فهذا الانتماء‬         ‫جئتهم كانت لحظة عجيبة‪ ،‬أن‬       ‫للقرية‪ ،‬هناك احتفاء بها‪ ،‬بعودتها‬
     ‫للمكان بعد سبع سنوات من‬           ‫وجدتني قائ ًما بينهم‪ ،‬فرحوا بي‬      ‫وبما تفعله وتحققه من تقدم في‬
  ‫الاغتراب له جذوره الضاربة في‬                                             ‫عملها وحياتها‪ ،‬لا أحد يهتم بما‬
 ‫الذاكرة كجذور النخلة التي تقبع‬          ‫وضجوا حولي”‪ ،‬ياء المتحدث‬
    ‫في فناء داره‪ ،‬الغربة في المدينة‬      ‫هنا في (بي وحولي) هي دليل‬       ‫تفعل في المدينة‪ ،‬لا بل لا أحد يعلم‬
‫هي الإحساس المسيطر على الفرد‪،‬‬         ‫لتحقيق ذاتية الفرد كفرد‪ ،‬احتفاء‬            ‫بوجودها ودورها أص ًل‪.‬‬
 ‫والذي يجعله في حنين دائم لمكان‬      ‫الجمع بك كواحد وبالتالي إعطاؤك‬
   ‫آخر‪ ،‬قلق كأنه على سفر‪ ،‬ليس‬            ‫الإحساس بوجودك كواحد له‬          ‫المجتمع الطبقي يتحقق في المدينة‬
  ‫للحاضر وجود‪ ،‬فحاضر المدينة‬          ‫كينونته وأهميته حتى وهو داخل‬       ‫بصورة واضحة‪ ،‬والطبقة تتحرك‬
 ‫هو وظيفة مؤقتة يؤديها الجميع‬         ‫المجموعة‪ .‬الانتماء الحميم للقرى‬     ‫كطبقة‪ ،‬لو تناولنا ظاهرة (الألف‬
‫بلا استثناء‪ ،‬في (مشروع الممرات)‬       ‫مرتبط أي ًضا بذاكرة معينة‪ ،‬حنين‬
 ‫لفالتر بنيامين‪ ،‬مشروعه المأخوذ‬        ‫للماضي وما كان‪ ،‬فمن الصعب‬            ‫نفر) وتعريف فرد واحد بعينه‬
 ‫بقصائد بودلير عن الحداثة وعن‬         ‫أن تحس بالانتماء لمكان لا وجود‬          ‫أنه (ألف نفر) رغم مساعيه‬
  ‫باريس المدينة‪ ،‬يرى فيه بنيامين‬        ‫لذاكرة لك فيه‪ ،‬المدينة بإيقاعها‬
    ‫المدينة على أنها ذاكرة مؤجلة‪،‬‬         ‫السريع وتغيرها اليومي اللا‬       ‫لتحقيق ذاته كفرد مستقل‪ ،‬هي‬
                                        ‫متوقف‪ ،‬لا تحتفظ لك جدرانها‬         ‫ظاهرة تدليلية على كيفية حركة‬
      ‫وصور فيه رعبه من التغير‬        ‫بذاكرة ولا أبوابها تعرف طرقاتك‪،‬‬     ‫المجتمع المديني وإجباره الفرد على‬
  ‫السريع للحياة المدينية‪ ،‬فلم تكن‬        ‫ولا تحفظ شوارعها خطاويك‪،‬‬        ‫الاندماج القسري داخل المجموعة‬
‫مباني باريس الشاهقة بالنسبة له‬          ‫غريب أنت كل يوم في الشارع‬
‫سوى أطلال‪ ،‬والأكثر غرابة أن لا‬       ‫ذاته‪ ،‬في المكان نفسه‪ ،‬يقول الطيب‬          ‫التي تشبهه أو الطبقة التي‬
‫أحد قد يلحظ ذلك التغيير‪ ،‬فهوس‬                                              ‫تمثله حتى يصبح الفرد هو تلك‬

   ‫بنيامين بجمع الأشياء القديمة‬                                                          ‫المجموعة كاملة‪.‬‬
‫والاحتفاظ بالقطع من كل الأماكن‬                                             ‫في مقدمة رواية (موسم الهجرة‬
                                                                         ‫إلى الشمال) يصور الطيب صالح‬
  ‫ليس سوى محاولة لخلق ذاكرة‬
‫مع تلك الأماكن التي قد تختفي في‬
‫أي لحظة‪ ،‬وذات يوم يرى القطعة‬
‫(ولتكن لوحة مث ًل) ويصيح (كان‬

                   ‫هنا معرض)‪.‬‬
     ‫حياة المدينة عجلى‪ ،‬والذاكرة‬
   ‫تتشكل بالإلفة والبقاء الطويل‪،‬‬
    ‫ولا شيء في المدينة يبقى‪ ،‬اللا‬
    ‫ذاكرة يعني اللا انتماء‪ ،‬ويظل‬
‫الفرد غريبًا داخل الجماعة يجاهد‬
     ‫ليجد ذاته‪ ،‬مسكو ًنا بالوحدة‬
‫والاضطراب وانعدام الأهمية الذي‬

             ‫حت ًما سيعجل حتفه‬
   268   269   270   271   272   273   274   275   276   277   278