Page 21 - Pp
P. 21
19 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
شخوص دينية مقدسة ،دارت حكاياتها في زم ٍن والسلطة ،إلى جانب سؤال العدالة الذي كان
غابر ،أعادها وسهر على توضيبها لتتماهى مع حضوره مؤث ًرا ،وهذا لا يخفى على القارئ ،بيد
شخصيات حاضرة عاينها في مجتمعه المحلي ،أو أن جدلية الدين والسلطة طغت على النص بشكل
لجأ إلى التخييل ،ليبني زمنًا مخال ًفا للزمن المتعارف واضح ونالت نصيب الأسد ،كما حاول صاحب
عليه ،ليكون بذلك قد دشن عه ًدا جدي ًدا في كيفية الرواية تعقب إشكالية الدين والعلم عبر شخصية
بناء الزمن الروائي ،وذلك «في فضا ٍء سديمي لا بدء «عرفة» .وكأن نجيب محفوظ حاول التأكيد ،عبر
رصد الجدلية المذكورة آن ًفا ،على أن «التغيير هو
له ولا نهاية»(.)15 التحرر من السلطتين الدينية والسياسية وتحرير
ظلت الأسطورة والحكاية تحكم حياة الإنسان في الإنسان والمجتمع منهما .فالدين لا يقب ُل إلا سلطة
حق ٍب متعددة ،ولعل البداية الرسمية للأسطورة
الضمير والعلم لا يقب ُل إلا سلطة العقل»(.)11
نجدها متشكلة بجلا ٍء كبير لدى الحضارات لقد استلهم نجيب محفوظ الحس الأسطوري
الشرقية القديمة (كلكامش) ،ثم في بلاد الإغريق والملحمي في رواية أولاد حارتنا ،وهذا يظهر بجلا ٍء
التي تبنت هذا الشكل الحكائي ،وحاولت نشره كبير في النص ،وقد اتضح ذلك بعد الدراسة التي
وتعميمه في مختلف الحضارات ،وقد لقي إقبا ًل شملت بعض شخصيات النص .لكن صاحب
الرواية هو سلي ُل الواقعية ،فما الذي دفع ُه إلى تبني
واس ًعا واهتما ًما كبي ًرا ،فالبرغم من عدم تقبل الأسطورة وجردها حتى يتمكن من بناء شخوصه
العقل لهذه الحكايات الأسطورية فإنها تحمل قي ًما وأحداث روايته؟ لقد أجاب الناقد الفلسطيني فيصل
ومعا ٍن رمزية تحتاج لتمعن كبير لاستيعابها ،كما دراج عن هذا السؤال قائ ًل« :سعى الروائي إلى
أنها ترتبط بسيا ٍق تاريخي محدد ،وهذا ما يجعل غايتين :تأمل الظلم والعدالة في أصولهما الشفافة
قراءتها وفق العصر الآني صعبًا ،لذا يجب قراءتها الأولى ،واشتقاق الأزمنة السديمية اللاحقة من
الزمن الأصلي فبعد أ ْن غدا الحاضر ثقي ًل ومبهم
وفق سياقها التاريخي. الإجابة ،أجبر السائل المغترب على ترحيل سؤاله إلى
رغم التبرير الذي حاول ُت تقديمه ووصفي للرواية زمن البدء التما ًسا واستنكا ًرا للحاضر في آ ٍن»(.)12
بأنها عمل تخييلي ُبني على أساس الأسطورة رغم استحضار نجيب محفوظ للأسطورة
والحكاية والملحمة ،بيد أن الأزهر ،كأعلى مؤسسة واستلهامه ل َن َف ِسها الذي منح للرواية نكهة خاصة،
دينية في مصر ،اعترض على مضمون الرواية، وفتح له أف ًقا أرحب لمعالجة عدة إشكاليات ،كانت
وادعى أنها ،رغم رمزيتها كما وضحت وسأوضح أبرزها جدلية الدين والسلطة ،إلا أنه كان ينفي
حضور الأسطورة ،بين الفينة والأخرى ،كلما
فيما بعد ،تمس بصور ٍة مباشرة بالمُقدسات. سنحت له الفرصة ،وخير مثا ٍل على ذلك« :حين
«كتب شيخه (= الأزهر) محمد الغزالي تقري ًرا عن يلقي الأب بأبنائه خار ًجا مان ًعا عنهم غضب ُه
الرواية وبعث ُه إلى جمال عبد الناصر وبموجبه الشديد التوبة والغفران»( .)13ارتبطت الأسطورة في
تم منع الرواية»( .)16لقد كان اعتراض الأزهر الرواية بمفهوم الزمن ،فصاحبها اختص في الرواية
مبنيًّا على أساس العاطفة والقراءة السطحية ،ولم
يكن محكو ًما بأسس علمية منطقية وموضوعية، تاريخية وتفنن في تشييدها ،وانفرد بتفرده فيها،
فالتقرير الذي كتبه شيخ الأزهر ،يبين مدى عدم لذا فقد وارب الزمن في الرواية وجعله «متسيبًا
تمكنه من حرفة النقد الأدبي ،فكان بالأحرى إحالة بلي ًدا ،يضار ُع فيه الماضي الشرير حاض ًرا أشد
الرواية على لجنة علمية متمرسة في النقد ،وتحكمها ش ًّرا ،وملامح البشرية غائمة متماثلة تشه ُد على
الموضوعية فقط ،وستكون لها ،دون شك ،قراءة بوادر الزمن الإنساني وفساده»(.)14
لقد جعل محفوظ الزمن مفتو ًحا ومتقاط ًعا،
ُمغايرة.
وقف النقاد العرب في موقع المدافع المستميت عن فباستلهامه للن َفس الأسطوري واستحضار رمزية
مضمون الرواية والغايات التي ترنو إليها ،كما
أنهم أبانوا عن موقفهم من رمزيتها .ونجد في
مقدمتهم الناقد عمر فتال الذي وصفها بأنها دشنت