Page 11 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 11

‫إبداع ومبدعون ‪9‬‬                                          ‫والإرجاء‪ ،‬فمفاهيم مثل النّص‪ ،‬وموت المؤلف‪ ،‬نراها‬
                         ‫رؤى نقدية‬                       ‫جز ًءا تكوينيًّا في مفاهيم ما بعد البنيوية خاصة لدى‬

    ‫نزعة تصنيفية‪ ،‬بل ماهيته –عند بلانشو‪ -‬قائمة‬               ‫دريدا وبارت وفليب سولرز وجوليا كيرستيفا‪.‬‬
  ‫على تدمير كل ماهية‪ ،‬واختراع لصيغ داخلية غير‬               ‫يغدو الأدب في ظل تصورات بلانشو عن الكتاب‬
 ‫برانية أو محدودة لجوهر الأدب‪ .‬وعلى هذا النحو‪،‬‬               ‫والكتابة والّنص واللّعب في حالة تحول مستمر‬
 ‫فإن الأدب يتحقق في كتاب لا ينشد المعرفة المطلقة‪،‬‬
                                                              ‫للبحث عن جوهره‪ .‬ولذلك نراه يقول‪« :‬الكتاب‬
    ‫بل كتاب يسعى إلى الشغف‪ ،‬والإمتاع والقراءة؛‬            ‫وحده المهم‪ ،‬بعي ًدا عن الأنواع‪ ،‬خار ًجا عن مقولات‬
    ‫فالكتابة والقراءة هما جوهر الأدب‪« ،‬فمن يؤكد‬          ‫النثر وال ّشعر وال ّرواية التي يرفض الكتاب تصنيفه‬
                                                          ‫تحتها‪ ،‬والتي ينكر عليها القدرة على تحديد مكانته‬
     ‫الأدب ذاته‪ ،‬لا يؤكد شيئًا‪ .‬ومن يبحث عنه‪ ،‬لا‬          ‫أو شكله‪ .‬لم يعد الكتاب ينتمي إلى نوع؛ فكل كتاب‬
‫يبحث إ َّل عن الأشياء الخفية فحسب‪ ،‬من يجدها‪ ،‬لا‬           ‫ينتمي إلى الأدب منفر ًدا‪ ،‬كما أن الأدب في عموميته‬
 ‫يجد إلا هذا الجانب من الأدب‪ ،‬بل ما هو أسوأ من‬
 ‫ذلك‪ ،‬إنه لا يجد إ َّل ما يتجاوزه الأدب‪ .‬لهذا؛ أخي ًرا‪،‬‬        ‫يمتلك مسب ًقا‪ ،‬الأسرار وال ّصيغ التي تسمح –‬
‫يصبح اللاأدب‪ ،‬هو ما يسعى إليه كل كتاب‪ ،‬كما لو‬               ‫بمفردها‪ -‬لما هو مكتوب بافتراض وجود حقيقة‬
                                                          ‫الكتاب‪ ،‬حينئذ‪ ،‬يبدو وكأن الأنواع قد اختف ْت‪ ،‬وأن‬
   ‫كان ذلك هو جوهر ما يريده‪ ،‬ويتمنى في حماس‬               ‫الأدب وحده أك َّد وجوده‪ ،‬لام ًعا وحي ًدا في الوضوح‬
                                    ‫اكتشافه»‪)4(.‬‬          ‫الغامض الذي ينشره‪ ،‬والذي يعكسه كل إبداع عن‬
                                                          ‫طريق كل تناسل‪ ،‬كما لو كان و ُج َد من قبل هناك‪.‬‬
  ‫لقد كان وراء مناوأة الأجناس لدى بلانشو إعلان‬             ‫باختصار كما لو كان هناك «جوهر» للأدب‪ .‬لكن‬
      ‫هيغل وهايدجر عن موت الفن‪ ،‬وزوال الأدب‪،‬‬                 ‫جوهر الأدب تحدي ًدا‪ ،‬هو ال ّرواغ من كل تحديد‬
                                                           ‫جوهري‪ ،‬ومن كل تأكيد يثبته أو حتى يدركه‪ :‬إنه‬
 ‫الذي قاده إلى مقولة «اختفاء مفهوم الأدب» بمعناه‬          ‫غير موجود بالفعل‪ ،‬فدائ ًما يجب اكتشافه أو إعادة‬
   ‫السائد‪ ،‬فحين يطرح بلانشو التساؤل‪ :‬الأدب إلى‬
                                                                                             ‫اختراعه»‪)2(.‬‬
‫أين؟ يرى أنه تساؤل يثير الحيرة‪ ،‬لكن الجواب عنه‬            ‫فالكتاب أو الكتابة ‪-‬بمعنى أصح‪ -‬تنفي أي انتماء‬
‫يكون سهلا‪« ،‬الأدب يتجه نحو نفسه‪ ،‬نحو جوهره‪:‬‬
                                                             ‫مسبق‪ ،‬ففعل الكتابة ‪-‬خاصة تلك الموروثة منذ‬
  ‫الذي هو الزوال‪ .‬الذين يبحثون عن تأكيدات عامة‬                ‫الرومانسيين‪ -‬تعبير أصيل عن نزعة مضادة‬
‫كهذه‪ ،‬يمكنهم الرجوع إلى ما يسمى بالتاريخ‪ ،‬الذي‬            ‫للتصنيف‪ ،‬بل سعي نحو جوهر الأدب الذي يتمثل‬
                                                            ‫في العكوف على اللغة‪ ،‬وبعث لمنطقه الداخلي دون‬
  ‫يعلمهم معنى كلمة هيغل الشهيرة‪« :‬الفن بالنسبة‬             ‫حدود أو تمايزات‪ ،‬يقول في كتابه الفضاء الأدبي‪:‬‬
 ‫لنا شيء من الماضي»‪ ،‬عبارة قالها هيغل بجرأة في‬            ‫«الحقيقة أن تلك الأشكال الأدبية‪ ،‬والأنواع‪ ،‬لم تعد‬
                                                             ‫لها أهمية حقيقية‪ ،‬ومثا ًل على ذلك‪ ،‬سيكون من‬
    ‫مواجهة غوته‪ ،‬في زمن سيادة الرومانسية‪ ،‬وفي‬            ‫ال ُّسخف التساؤل عما إذا كانت «يقظة فينيغان» تعد‬
 ‫وقت كانت الموسيقى والفنون التشكيلية‪ ،‬والشعر‪،‬‬                ‫عم ًل نثر ًّيا أو لا‪ ،‬أو إذا كان من الممكن تسميتها‬
 ‫تستعد جميعها لانجازاتها الكبرى»‪ )5(.‬ومبرر ذلك‬               ‫رواية‪ ،‬إنه عمل يشير إلى أدب يسعى إلى تأكيد‬
‫أن الفنون والآداب لم تعد تقارب «المطلق» أو تسعى‬                 ‫نفسه في جوهره‪ ،‬من خلال تخريب الفوارق‬

   ‫إليه‪ ،‬فالمطلوب هو تحقق العالم بالفعل‪ ،‬لذا يقول‬                                           ‫والحدود»‪)3(.‬‬
‫بلانشو تحت تأثير هيغل‪ ،‬بأن «الفن يضارع المطلق‬            ‫إن السعي نحو اللغة في صمتها‪ ،‬بعي ًدا عن الوضوح‬
‫في الماضي فحسب‪ ،‬ولا يزال يتمتع بالقوة والسلطة‬
                                                            ‫أو صوغ الخطاب كأداة أو وسيلة تواصل‪ ،‬يجد‬
  ‫في المُتحف‪ ،‬أو يتحول في وصمة عار بالنسبة لنا‪،‬‬                 ‫مصوغه النظري في رفض فكرة الماهيات أو‬
   ‫إلى مجرد متعة جمالية بسيطة‪ ،‬أو مجرد مساعد‬
                                                             ‫الكليات‪ ،‬فماهية الأدب ليست ماهية مختزلة في‬
                                     ‫للثقافة»‪)6(.‬‬
    ‫التأكيد على فعل الكتابة يفتح أمام الأدب فضاء‬
  ‫لتأكيد وجوده في «الغياب»‪ ،‬أي في التمرد على كل‬
    ‫ماهية سابقة‪ ،‬وكل تصنيف قبلي‪ ،‬لتغدو الكتابة‬
 ‫مرآة لثورة الأدب داخل النصوص واللغة‪ ،‬فلم يعد‬
‫هدف الأدب السعي نحو «المطلق»‪ ،‬بل نحو «كينونة‬

      ‫الكائن»‪ ،‬مغيبًا في هذا السعي كلام الأساطير‬
   6   7   8   9   10   11   12   13   14   15   16