Page 15 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 15

‫‪13‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

‫يعد يحتمل التمييز بين الأجناس)‪ ،‬يقول لنا بلانشو‬          ‫«الفكر» من أي رجوع للقيم وللحقيقة؛ ويمكن‬
‫إنه «يركن إلى أنماط القول كافة –السردية والغنائية‬        ‫القول‪ ،‬من أي فكر كان‪ ،‬قيل غالبًا عنه‪ :‬إن «أنا‬
 ‫والمقالية‪ -‬وأهم من ذلك أن كتابه بكامله يركز على‬       ‫أتكلم» لديه هي طريقة لنبذ أي «أنا أفكر» كانت‪.‬‬
                                                        ‫إن الصورة الأسلوبية المفضلة عند بلانشو هي‬
   ‫التمييز بين اثنين قد لا يكونان من الأجناس‪ ،‬بل‬       ‫الخلافية‪ ،‬التأكيد المتزامن لهذا ولنقيضه‪ ..‬يكتب‬
 ‫من الأنماط الأساسية هما القصة والرواية‪ .‬فتتميز‬       ‫في الكتاب الآتي‪[ :‬صي ًغا مثل] «امتلاء فارغ»‪« ،‬إنه‬
‫الأولى بالبحث العنيد عن مكان أصلها الخاص الذي‬           ‫لم يأت بعد أب ًدا‪ ،‬وسبق مروره دو ًما»‪« ،‬الفراغ‬
  ‫تمحوه الأخرى وتخفيه‪ ،‬إذن ليست الأجناس هي‬           ‫كامتلاء»‪« ،‬فضاء بدون مكان»‪« ،‬وجه شاسع نراه‬
                                                       ‫ولا نراه»‪« ،‬الإنجاز غير المنجز»‪« ،‬ومع ذلك فإن‬
    ‫التي توارت‪ ،‬بل هي أجناس الماضي‪ ،‬فاستبدلت‬        ‫العين ليست مثيل العين»‪ ،‬وعلى هذا النحو إلى ما لا‬
    ‫بأخرى‪ ،‬فلم يعد الكلام يدور على الشعر والنثر‬      ‫نهاية‪ ..‬إلا أن التأكيد المتزامن لـ أ ولا أ يعني طرح‬
 ‫وعلى البنية والتخييل‪ ،‬بل على الرواية والقصة‪ ،‬على‬      ‫البعد الإثباتي للغة النقاش‪ ،‬وفعليًّا اعتماد خطاب‬
  ‫السردي والمقالي‪ ،‬على الحوار وعلى الصحيفة»‪)19(.‬‬
   ‫أما المبدأ الذي يدافع عنه بلانشو وغيره‪ ،‬القائل‬          ‫يتعدى الصواب والخطأ‪ ،‬والخير والشر»‪)17(.‬‬
  ‫بأن عصيان العمل أو النص لجنسه الأدبي يؤدي‬          ‫أما الكتاب الآتي‪ ،‬فهو كتاب لا يؤمن بأي تصنيف‪،‬‬
‫إلى جعل مقولة الأجناس نفسها معدومة‪ ،‬فهذا المبدأ‬      ‫حلم بنص يحارب الأجناس في الوقت الذي يسعى‬
    ‫يرفضه دون تردد تودوروف‪ ،‬بل يرى أنه مبدأ‬
  ‫(باطل)؛ لأن المخالفة والعصيان والتمرد‪ ،‬تقتضي‬         ‫لحيازتها حتى يتأبى بهذا الصنيع على التعريف‪.‬‬
   ‫وجود قانون يخرق ويتمرد عليه‪ ،‬بل إن القانون‬         ‫لكن الحلم دال في عمقه على مفارقة لا تقبل الحل؛‬
    ‫لا يحيا ولا يستمر إلا بوعي بتلك المخالفة‪ .‬ومن‬
    ‫الطريف أن يستشهد تودوروف بكلام بلانشو‬               ‫فالمناداة الآنية بهذا الكتاب تتعارض مع وجوده‬
 ‫نفسه في الكتاب الآتي‪ ،‬وحديثه عن جويس‪ ،‬قائ ًل‪:‬‬      ‫المنجز حتى لدى بلانشو‪ ،‬بمعنى آخر؛ إن هذا الحلم‬
‫«إن كان جويس قد قام ح ًّقا بتحطيم الشكل الروائي‬     ‫نابع من ذات وعمل تاريخيين‪ ،‬وكأنه مصادرة على‬
‫فجعله زائ ًفا‪ ،‬فقد دفع أي ًضا إلى الإحساس بأن ذلك‬
 ‫الشكل لا يحيا إلا عبر انحرافاته‪ ،‬ولئن تطور‪ ،‬فلن‬      ‫التاريخ بتمامه‪ ،‬والمستقبل وإمكانياته‪ ،‬إن بلانشو‬
   ‫يكون وهو يلد غيلا ًنا‪ ،‬وأعما ًل شوهاء‪ ،‬لا قانون‬    ‫في الحلم بالكتاب الآتي والمستقبل في آن يقع فيما‬
  ‫لها ولا ناظم‪ ،‬بل وهو يستثير استثناءات له فقط‪،‬‬
     ‫تش ّكل قانو ًنا وتلغيه في الوقت نفسه‪ ..‬ولنضع‬                ‫يسميه بولهان «وهم المستكشف»‪)18(.‬‬
  ‫في حسابنا‪ ،‬كلما جرى بلوغ الحد في تلك الأعمال‬      ‫لكن هل كان كتاب بلانشو «الكتاب الآتي» بعي ًدا عن‬
  ‫الاستثنائية‪ ،‬أن الاستثناء وحده هو الذي يعلن لنا‬   ‫الأجناس التي يحاربها؟ يرى تودوروف أن بلانشو‬
‫عن ذلك القانون‪ ،‬وأنه يمثل حياله الانحراف الوحيد‬
                                                      ‫في هذا الكتاب وإن تجاوز مفهوم الجنس الصافي‬
                               ‫والضروري»‪)20(.‬‬        ‫أو النقي‪ ،‬فإنه جمع في أعطافه تنو ًعا من الأجناس‬
 ‫وكأن بلانشو يؤكد وجود القانون‪ ،‬في الوقت الذي‬       ‫التي شكلته في النهاية‪ ،‬قال تودوروف‪« :‬لدى قراءة‬

      ‫يناهض وجوده؛ كي يوجد النص عبر مخالفة‬               ‫كتابات بلانشو نفسها‬
 ‫قاعدته‪ .‬لكن من جهة أخرى‪ ،‬أليس في رواج العمل‬        ‫التي يتأكد فيها ذلك الغياب‬
‫المخالف في المكتبات‪ ،‬وتلقي النقاد له وشيوعه‪ ،‬دليل‬
 ‫على إيجاد قاعدة كي تشكل استثناء؟! بمعنى آخر‪،‬‬          ‫للأجناس‪ ،‬نقع في العمل‬
‫أنه يصبح نموذ ًجا للكتابة والاحتذاء والدوران وفق‬         ‫على زمر يصعب إنكار‬
                                                        ‫وجه الشبه بينها وبين‬
    ‫مبدأ‪ :‬القاعدة والاستثناء من جديد‪ ،‬هذا إذا كفل‬       ‫تمايزات الأنواع‪ ،‬وهكذا‬
   ‫لنفسه أن يكون بتلك القوة التي تشكل فع ًل قاعدة!‬      ‫نرى فص ًل من «الكتاب‬

                                                     ‫الآتي» مخص ًصا للمذكرات‬
                                                       ‫الشخصية‪ ،‬وآخر للكلام‬

                                                    ‫التنبؤي‪ ،‬وفي معرض الكلام‬
                                                      ‫عن بروخ نفسه (الذي لم‬
   10   11   12   13   14   15   16   17   18   19   20