Page 200 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 200

‫العـدد ‪١٩‬‬                               ‫‪198‬‬

                                ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬                            ‫تصورات المدينة الفاضلة‪،‬‬
                                                                     ‫كما ظهرت على يد الفارابي‬
  ‫اختلاط الدين بالسياسة منذ‬          ‫السلطان قمته‪ ،‬والخاصة‬          ‫(‪950 -874‬م) إبان الدولة‬
 ‫بواكير هذا التاريخ حدد علاقة‬         ‫وسطه‪ ،‬والعامة قاعدته‪.‬‬         ‫الحمدانية‪ ،‬والشيخ الرئيس‬
                                   ‫الخط الثاني المبكر يتمثل في‬       ‫ابن سينا (‪1037 -980‬م)‬
   ‫ارتباط بين الفكر السياسي‬        ‫اشتراطات الإمامة الفقهية‪،‬‬      ‫إبان الدولة السامانية‪ ،‬واللذين‬
  ‫وبين “النص” بوجهه الديني‬         ‫وأفكار الخلافة الدينية كما‬     ‫تعد نظرياتهما أصو ًل يوتوبية‬
                                 ‫ظهرت في مدونات الفقه وعلم‬       ‫للنظريات السياسية الحديثة‪ ،‬لم‬
     ‫التاريخي‪ ،‬كما يمثله الخط‬      ‫الكلام لدى الفرق والمذاهب‬      ‫يعرف العقل السياسي العربي‬
    ‫الفقهي‪ ،‬وبوجهه السياسي‬      ‫المختلفة‪ ،‬لا كحيز منفصل قائم‬       ‫قبل ابن خلدون أصول الفكر‬
                                ‫بذاته (علم سياسي) ‪ ،‬بل كباب‬           ‫السياسي بمعناه الحديث‪.‬‬
       ‫التقني‪ ،‬كما يمثله الخط‬    ‫من أبواب “الفقه السياسي”‪.‬‬        ‫ذلك أن السياسة كفكر سارت‬
  ‫السلطاني‪ ،‬وبوجهه اليوتوبي‬         ‫وهي أفكار ونقاشات ظلت‬          ‫في التراث الإسلامي ‪-‬إضافة‬
  ‫كما يمثله الخط الفلسفي‪ .‬هذا‬        ‫تدور حول النص الديني‬           ‫لخطها الفلسفي‪ -‬في خطين‬
                                    ‫ماث ًل في القرآن والحديث‪،‬‬
     ‫التفكير النصي سبب هوة‬        ‫ولم تراوح في أصولها الأولى‬                       ‫رئيسيين‪:‬‬
  ‫واسعة‪ ،‬وعمل بمثابة الجدار‬          ‫أبعد من الارتباط بالنص‬      ‫الخط الأول المتأخر هو “الأدب‬
   ‫العازل بين الفكر السياسي‬     ‫التاريخي ماث ًل في دولة الخلفاء‬
  ‫العربي وبين النظرة التأملية‬     ‫الراشدين في صدر الإسلام‪.‬‬          ‫السياسي” الذي اتخذ شكل‬
   ‫(العلمية) للسياسة وشئون‬      ‫وانحصر اجتهادها في استنباط‬        ‫النصائح الموجهة للساسة من‬
‫الدول‪ ،‬أي النظرة “الخلدونية”‬        ‫الشروط الشرعية النظرية‬         ‫الخلفاء والوزراء والسلاطين‬
‫التي تتأمل في السياسة كميدان‬      ‫للإمامة ومعناها وواجباتها‪،‬‬     ‫والولاة‪ ،‬واتخذ من أدب النصح‬
   ‫سلوك بشري عملي ومادي‪،‬‬         ‫التي انقسمت دائ ًما إلى شقين‬
                                  ‫هما “حراسة الدين وسياسة‬             ‫السياسي والأخلاقي عند‬
     ‫غير خاضع لأيديولوجية‬           ‫الدنيا”‪ )3(.‬وهو خط فكري‬      ‫الفرس في المقام الأول واليونان‬
       ‫النص‪ ،‬وقابل لاستنباط‬        ‫تناول السياسة من منظور‬        ‫جزئيًّا نماذج وأصو ًل له‪ .‬الأمر‬
  ‫المباحث والنظريات السياسية‬      ‫ديني وقدمها كوظيفة دينية‪،‬‬
       ‫طبقا لمجرياته وتبدلاته‬    ‫لا دينية خالصة مثل العبادات‬        ‫الذي ظهر في نمط ممتد من‬
  ‫وقوانينه الداخلية‪ .‬يكاد يكون‬   ‫والفروض والأركان الطقسية‬        ‫الكتابات السياسية عرف باسم‬
     ‫الارتباط بالنص قد حول‬         ‫الأخرى‪ ،‬بل كوظيفة واجبة‬
    ‫الفكر السياسي عند العرب‬          ‫لكونها تتوسط بين الدين‬          ‫“الآداب السلطانية”‪ ،‬شاع‬
   ‫إلى فكر معوق غير قادر على‬        ‫والدنيا‪ ،‬وتجسد الحاكمية‬       ‫خلال العصر العباسي الأول‪،‬‬
   ‫مفارقة استحكاماته الفقهية‪،‬‬      ‫السلطوية للنص الديني على‬
     ‫وتمترساته الأيديولوجية‪،‬‬         ‫شئون الحياة كما تصور‬            ‫ودشنه ابن المقفع (‪-724‬‬
   ‫إلى ميدان التأمل النظري في‬   ‫الفقهاء‪ ،‬فما يتم به الواجب هو‬     ‫‪759‬م) أواخر العصر الأموي‬
 ‫السياسة كشأن حياتي دنيوي‬        ‫واجب بحسب القاعدة الفقهية‬         ‫بكتابه “الأدب الكبير”‪ ،‬أخذه‬
   ‫أو ًل‪ ،‬ثم كحيز عملي منفصل‬                                      ‫من “أقوال المتقدمين” وقسمه‬
  ‫عن النص‪ .‬وهو ذات الجمود‬                         ‫المعروفة‪.‬‬        ‫إلى مبحثين‪ ،‬دار الأول منهما‬
‫النصي الذي أدى إلى مرور عدة‬            ‫من هنا‪ ،‬وبناء على هذا‬
‫قرون قبل أن يصبح في متناول‬       ‫المخطط العام لمجريات التفكير‬       ‫عن السلطان‪ ،‬والثاني حول‬
 ‫الفكر السياسي نقد رؤيته على‬      ‫السياسي في التاريخ العربي‬      ‫مصاحبته (حاشيته) وما يجمل‬
                                  ‫والإسلامي‪ ،‬يمكن القول بأن‬      ‫بكل منهما من منظور السياسة‬
              ‫يد ابن خلدون‪.‬‬                                      ‫والملك والأخلاق‪ .‬وهو نمط من‬

   ‫الإمامة والسياسة‬                                                 ‫الفكر السياسي يكرس –كما‬
                                                                    ‫يلاحظ الجابري(‪ –)2‬لتصور‬
  ‫“أبو محمد عبد الله بن مسلم‬                                     ‫طبقي هرمي شبه ديني‪ ،‬يشغل‬
   195   196   197   198   199   200   201   202   203   204   205