Page 199 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 199

‫الملف الثقـافي ‪1 9 7‬‬

‫ابن خلدون‬          ‫قد خلت في عباده”‪)1(.‬‬         ‫عاصر المؤرخ والعمراني‬           ‫كيف استهلك الفكر السياسي العربي ذاته‬
             ‫هذه الرؤية الدنيوية لأحوال‬                                             ‫في النقل والتركيب؟‬
                                                   ‫المعروف عبد الرحمن بن‬        ‫عصام الزهيري‬
                 ‫السياسة والنظرة المادية‬      ‫خلدون (‪1406 -1332‬م) كما‬
            ‫للتاريخ رفعت ابن خلدون إلى‬
              ‫مصاف كبار مفكري التراث‬             ‫يذكر في بداية مقدمته ذهاب‬
                                                  ‫دولة العرب وانتقال الحكم‬
              ‫العربي والتاريخ الإنساني‪،‬‬            ‫السياسي من بين أيديهم‬
           ‫ولا يخفى أن هذه الرؤية كانت‬          ‫إلى أيدى سواهم‪ ،‬مثل الترك‬
           ‫تمثل في زمانها كش ًفا معرفيًّا لا‬      ‫بالمشرق‪ ،‬والبربر بالمغرب‪،‬‬
           ‫يزال العرب يفاخرون إلى اليوم‬         ‫والفرنجة بالشمال‪“ :‬فذهبت‬
            ‫بكونه اكتشا ًفا رفيع المستوى‬         ‫بذهابهم أمم وانقلبت أحوال‬
                                                 ‫وعوائد ُنسي شأنها وأُغفل‬
              ‫بالمقياس العلمي والتاريخي‬        ‫أمرها”‪ .‬هذه النظرة التاريخية‬
            ‫والحضاري‪ .‬دون أن يثار –إلى‬           ‫الواقعية (العلمية) للسياسة‬
             ‫جانب الزهو والتفاخر عادة‪-‬‬           ‫ولتقلب أحوال الدول هو ما‬
            ‫السؤال البديهي حول السياق‬         ‫جعل “ابن خلدون” يوجه نق ًدا‬
                                              ‫شدي ًدا للجهل بقواعد السياسة‬
               ‫الثقافي والظرف التاريخي‬             ‫والغفلة عن دلالات التبدل‬
           ‫الذي قضى بتأخر كشوف ابن‬              ‫الدائم في أحوالها‪ ،‬والخطأ في‬
                                              ‫استيعاب نواميسها التي تجعل‬
             ‫خلدون المعرفية ونظرياته في‬          ‫من اختلاف المصالح أسا ًسا‬
            ‫السياسة والتاريخ عدة قرون‪،‬‬
            ‫منذ بدأ العقل العربي انشغاله‬           ‫لها‪ ،‬ومن التغير وصعود‬
            ‫بالتاريخ والسياسة‪ .‬فالذاكرة‬        ‫وانهيار الدول قانو ًنا للتاريخ‪.‬‬

               ‫العربية لا تزال تؤرخ لابن‬          ‫يقول‪“ :‬ومن الغلط الخفي‬
               ‫خلدون بوصفه واح ًدا من‬            ‫في التاريخ الذهول عن تبدل‬
             ‫الشهب الأخيرة التي لمعت في‬           ‫الأحوال في الأمم والأجيال‬
            ‫سماء المعرفة العربية‪ ،‬قبل أن‬       ‫بتبدل الأعصار ومرور الأيام‪،‬‬
           ‫يحل ظلام جمود عقلي ومعرفي‬           ‫وهو داء دو ّي شديد الخفاء إذ‬
             ‫وليل حضاري طويل‪ ،‬استمر‬           ‫لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة‪،‬‬
              ‫لأكثر من أربعة قرون حتى‬           ‫فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد‬
           ‫بداية اللقاء بالعلوم والحضارة‬
           ‫الغربية وبداية النهضة العربية‬           ‫من أهل الخليقة‪ ،‬وذلك أن‬
                                              ‫أحوال العالم والأمم وعوائدهم‬
                              ‫الحديثة‪.‬‬
                                                 ‫ونحلهم لا تدوم على وتيرة‬
                ‫إعاقة نصية‬                    ‫واحدة ومنهاج مستقر إنما هو‬

                  ‫بعي ًدا عن حقل الفلسفة‬         ‫اختلاف على الأيام والأزمنة‬
               ‫العربية التي كانت في أحد‬           ‫وانتقال من حال إلى حال‪،‬‬

                   ‫جوانبها امتدا ًدا للفكر‬     ‫وكما يكون ذلك في الأشخاص‬
              ‫اليوناني السياسي‪ ،‬وبمنأى‬           ‫والأوقات والأمصار‪ ،‬فكذلك‬
                                                     ‫يقع في الآفاق والأقطار‬
                  ‫عن نظرياتها السياسية‬
               ‫اليوتوبية في دورانها حول‬       ‫والأزمنة والدول‪ :‬سنَّة الله التي‬
   194   195   196   197   198   199   200   201   202   203   204