Page 230 - m
P. 230

‫العـدد ‪59‬‬                              ‫‪228‬‬

                                ‫نوفمبر ‪٢٠٢3‬‬                                            ‫الأيد‪.‬‬
                                                                     ‫فإذا أضيف إلى هذه الآلام‬
‫‪ ١٩٤٤‬نسمع معه صوت أبي‬            ‫بيته الذي يعصمه من البشر‬             ‫فساد الأخلاق‪ ،‬وانحطاط‬
                    ‫العلاء‪.‬‬         ‫حوله‪ ،‬ويريحه منهم ومن‬           ‫النفوس‪ ،‬وازدراء المنكوبين‬
                                     ‫أفعالهم‪ ،‬ويج ُّد العميد في‬      ‫وأصحاب الآفات حتى من‬
   ‫المحطة الثالثة “صاحبنا»‪،‬‬         ‫البحث عن المعري بصيغة‬
 ‫وفيها يجلس العميد يتلمس‬           ‫أكاديمية غرضها نيل رضا‬              ‫الخاصة وأهل العلم‪ ،‬ثم‬
                                      ‫اللجنة الممتحنة في المقام‬   ‫اشتداد الفقر ونضوب موارد‬
   ‫عدة كتب سردية (الأيام‪،‬‬                                          ‫العيش‪ ،‬أنتجت هذه المصيبة‬
  ‫أديب‪ ،‬دعاء الكروان‪ ،‬الحب‬      ‫الأول‪ ،‬فيلتزم منه ًجا محد ًدا لا‬   ‫من الآثار ما ستراه في حياة‬
‫الضائع‪ ،‬المعذبون في الأرض‪،‬‬        ‫يحيد عنه‪ ،‬ويمر سري ًعا على‬
                                 ‫مواضيع كثيرة‪ ،‬أما لو أردنا‬                      ‫أبي العلاء”‪.‬‬
       ‫أحلام شهر زاد‪ ،‬جنة‬         ‫معرفة كيف رأي طه حسين‬              ‫ما قاله طه حسين الشاب‬
‫الحيوان‪ ،‬جنة الشوك)‪ ،‬كتاب‬         ‫المعري ح ًّقا وعاشره‪ ،‬فعلينا‬    ‫وقتئذ‪ ،‬يشعرنا بالألم لظروف‬
                                 ‫بكتاب سيكتبه بعد ربع قرن‬          ‫حياته‪ ،‬فكيف كان يشعر هو‬
    ‫واحد كلما لمسه ارتسمت‬                                         ‫وأبو العلاء؟! لقد و َّحد العمي‬
    ‫ابتسامة مشوبة بالحزن‪،‬‬       ‫تقريبًا من رسالته‪ ،‬وقد نضج‬           ‫بين طه حسين والمعري لا‬
‫ويعود بالذاكرة إلى يوم بعيد‬     ‫فكره وتسامت رؤيته وأصبح‬               ‫شك في ذلك‪ ،‬وجعله أكثر‬
  ‫غاص في ذاكرته قبل عقود‬         ‫طه حسين كما نعرفه ونحبه‪،‬‬           ‫قدرة على فهم مراميه‪ ،‬لأنه‬
‫استطالت “لا يذكر لهذا اليوم‬                                           ‫مر بما مر به‪ ،‬يعرف كنه‬
‫اس ًما‪ ،‬ولا يستطيع أن يضعه‬         ‫فترك نفسه على سجيته لا‬
 ‫حيث وضعه الله من الشهر‬         ‫يفكر في شيء عدا حكيم المعرة‬            ‫الظلام والعجز والحيرة‬
   ‫والسنة‪ ،‬بل لا يستطيع أن‬                                          ‫والقهر‪ ،‬وفي “الأيام» يسرد‬
    ‫يذكر من هذا اليوم وقتًا‬       ‫نفسه‪ ،‬فينقب جدران سجنه‬
  ‫بعينه‪ ،‬وإنما يقرب إلى ذلك‬     ‫الذي حبس فيه شاعرنا نفسه‬             ‫بأسلوبه الشاعري المؤثر‪،‬‬
  ‫تقريبًا»‪ ..‬بتلك الكلمات يبدأ‬                                    ‫أول مرة يدرك في طفولته أنه‬
 ‫كتاب «الأيام» الذي يتلمسه‬          ‫طواعية‪ ،‬وندخل بصحبته‬          ‫أعمى‪ ،‬يعرف إخوته ما يجهل‬
‫العميد بأصابعه‪ ،‬وعلى وجهه‬          ‫«مع أبي العلاء في سجنه»‬
  ‫الابتسامة الجامعة بين لذة‬      ‫وفيه الإهداء الشهير الساخر‬          ‫هو‪ ،‬ويستطيعون ما يعجز‬
     ‫الحياة وشقائها‪ ..‬الأيام‬        ‫من طه حسين للمتنطعين‬            ‫عنه‪ ،‬وتسمح لهم أمهم بما‬
  ‫أحد أشهر الكتب في الثقافة‬      ‫“إلى الذين لا يعملون ويؤذي‬       ‫تحظره عليه‪ ،‬فشعر بالضعف‬
     ‫العربية‪ ،‬والبعض يضع‬            ‫نفوسهم أن يعمل الناس‪،‬‬          ‫وبأن غيره يتميز عليه‪ ،‬ومن‬
                                  ‫أهدي هذا الكتاب»‪ ،‬وفي عام‬        ‫حوادث حياته التي تلت فهم‬
                                                                     ‫نفسية المعري وسلوكياته‬

                                                                       ‫بل وفعلها في صغره أن‬
                                                                  ‫يسمع بأن هناك شاع ًرا اسمه‬
                                                                  ‫المعري مر بالدنيا‪ ،‬والعبارات‬

                                                                   ‫التي عبر بها طه حسين عن‬
                                                                   ‫معاناته مع العمي‪ ،‬خليق أن‬
                                                                    ‫يكتبها المعري لو كان عاش‬

                                                                     ‫في القرن الماضي‪ ،‬والعمي‬
                                                                     ‫جعله يج ُّد في طلب العزلة‬
                                                                     ‫عن الناس‪ ،‬فأصبح رهين‬
                                                                     ‫المحبسين الظلام وجدران‬
   225   226   227   228   229   230   231   232   233   234   235