Page 43 - m
P. 43

‫‪41‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

‫كلمة جفلت الموحية بالاستغراب توحي بهذا‪ ،‬إنه الدوار‬           ‫ويستنسخها‪ ،‬بل يتأثر ببعض زواياها وأبعادها ما‬
 ‫والصداع الذي تشعر به الراوية والساردة‪ ،‬لماذا تغدو‬          ‫يعمق تجربته هو‪ ،‬ويجعله متمي ًزا بطرحه لغ ًة وفك ًرا‬
‫الكتابة إطلالة على الخوف؟ الكتابة في أصلها إطلالة على‬
  ‫نافذة التطهير من أدران تطوق صاحبها‪ ،‬وهي ارتقاء‬                                                ‫وأسلو ًبا‪.‬‬
‫بالفكر من عالمه الأدنى إلى عالمه الخيالي‪ ،‬ومن محدودية‬           ‫من يدرس النتاجين الأدبيين للكاتبين‪ :‬البراري‪،‬‬
                                                           ‫والمومني‪ ،‬يجد النموذج الأعمق المتأصل لديهما يتمثل‬
     ‫مكانه وزمانه إلى شموليته واتساعه‪ ،‬متشك ًل عبر‬       ‫في قضية الخوف والقسوة‪ ،‬ولربما السوداوية والقتامة‪،‬‬
   ‫فضاءات رحبة لا حدود لها‪ ،‬وذلك ما يجعل صاحبه‬              ‫في ظل متغيرات سياسية واجتماعية وأحداث جاثمة‬
  ‫منطل ًقا من عالم القيود إلى عالم الحرية‪ ،‬ومن المحدود‬         ‫على إرادة الإنسان‪ ،‬تفرض عليه نم ًطا من الحياة‪،‬‬
  ‫إلى الأوسع الرحب‪ ،‬ومن المنظور إلى اللامنظور‪ ،‬وفي‬        ‫وتجعل حريته محدودة الحركة‪ ،‬فتكبله بالقيود‪ ،‬ولعل‬
                                                           ‫عناوين قصصها تحمل بذور المعاناة والبؤس‪ ،‬فمنها‬
      ‫ذلك العالم اللامرئي يبث الكاتب ما يعتلج روحه‬         ‫فتنة وأربع نساء‪ ،‬والخلاص‪ ،‬وفرح ناقص‪ ،‬وارتباك‪،‬‬
      ‫بتجرد من القيود‪ ،‬فينطلق في عالم الكلمة البديعة‬          ‫وغريب‪ ،‬وح ًّظا تعي ًسا‪ ،‬وثو ًبا أرقط‪ ،‬وذات سقوط‪،‬‬
   ‫المتألقة؛ ليحقق هناك ذاته‪ ،‬لكنه مع ذلك تبقى روحه‬           ‫وكلها مثقلة بالعثرات والسقوط‪ ،‬والموت‪ ،‬والفتنة‪،‬‬
 ‫غير منفصلة عن الواقع المأزوم‪ ،‬تشده إليه على الدوام؛‬          ‫وتسعى الكاتبة إلى الخلاص‪ ،‬تقول المومني «»هل‬
    ‫لأنه في نهاية المطاف سيعود إلى عالمه المنظور‪ ،‬لأنه‬      ‫ستكتبين؟» جفلت‪ ،‬في بادئ الأمر ظننته صوتي‬
‫جزء من ذلك الكيان البشري لا ينفصل عنه أو يستقل‪،‬‬             ‫هرب مني‪ ،‬خلتني سألت نفسي بصوت منخفض‬
   ‫إنها الكلمة التي تبحث عنها الكاتبة و ُتسأل عنها من‬           ‫أجاهد نعا ًسا بحجم جبل «عوف» على عيني‬
‫الآخرين‪ ،‬هل ستكتبين؟ حتى الإقبال على الكتابة مصدر‬         ‫البنيتين الكبيرتين‪ ..‬دوار خفيف يأخذ يقظتي بلفة‬
‫السعادة الآنية‪ ،‬ليس مستق ًّل عن البيئات المحيطة‪ ،‬كيف‬        ‫رمادية تما ًما‪ ..‬خيل إل َّي أن دوار «الدلة» منتصف‬
   ‫ستكتب والسماء قد بلغت سن اليأس‪ ،‬لا تحمل قم ًرا‬        ‫الشارع الرئيس في قريتنا‪ ،‬يضمني في دائرة قطرها‬
 ‫ولا تتزين بنجوم لامعة‪ ،‬تلك هي التلازمية والوثائقية‬
‫التي لا تنفصم عراها عما يجاورها‪ ،‬فهي من مخرجاتها‬                                   ‫لا يتعدى ثلاثة أمتار»‪.‬‬
                                                          ‫يكشف هذا التساؤل بجواب ضمني تلقائي مضمونه‬
        ‫الطبيعية‪ ،‬وأنى لها أن تتحرر منها أو تستقل‪.‬‬       ‫يبعث على أنني سأكتب‪ ،‬ولكن باتجاه آخر غير المألوف‪،‬‬
 ‫روي ًدا روي ًدا تلتقي الكاتبة بأحداث رواية تراب الغريب‬     ‫وغير المتع َّود؛ لأن الظرف الذي سأكتب فيه هو بيئة‬
                                                          ‫مت ِعبة تتبدل فيها المفاهيم وتختلط فيها الأوراق‪ ،‬ولعل‬
      ‫بما فيها من ركامات القبور‪ ،‬والموت‪ ،‬واللانهاية‪،‬‬
    ‫والتراب‪ ،‬والأرواح‪ ،‬والخراب‪ ،‬والخوف‪ ،‬والهلاك‪..‬‬
‫وكل معاني تحولات أشكال الحياة الجمالية إلى عبثيتها‬
     ‫وتدميرها على أيدي سلوكيات الإنسان‬
     ‫العابثة‪ ،‬بآلة الحرب والنزاعات كما عند‬
    ‫(البير كامو) والبراري‪ ،‬فها هي المومني‬
     ‫تصرخ منذ بداية مجموعتها القصصية‬
‫بالوجع والقسوة والحرمان «الأرض جرداء‬
 ‫خالية إلا من أصوات الوحوش الضارية‬
  ‫والمفترسة‪ ،‬تراب وقبر‪ ..‬تلو ُت المعوذات‬
 ‫ليذهب الروع عني قلي ًل»‪ ،‬إنه الخوف من‬
  ‫المجهول ومن المصير‪ ،‬فغدت الأرض ملأى‬
     ‫بالوحوش الكاسرة الضارية التي تفتك‬
‫بالأبرياء‪ ،‬إنهم وحوش من البشرية‪ ،‬يقابلون‬
  ‫وحوش الحرب في الروايتين المشار إليهما‬
   ‫ساب ًقا‪ ،‬إنه التلاقي بين المومني والبراري‬
   38   39   40   41   42   43   44   45   46   47   48