Page 44 - m
P. 44
العـدد 59 42
نوفمبر ٢٠٢3
لوحة جدارية قاتمة ،تحمل صو ًرا نابضة بالحركة في الفكرة والموضوع ،مع التغيير في الآليات ،فإنسان
النشطة في مجال البؤس والموت ،وهيئة الإنسان التي البراري في تراب غريبه ،هو نفسه إنسان المومني
تبعث على الشؤم والفقر ،حتى الذاكرة غدت متكدسة،
واللون الأحمر هو اللون السائد المهيمن «الدم» ،وصبغ الكاسر الموحش ،والنتيجة واحدة ،إنه الخوف الذي يملأ
الأصابع بالتجعد دليل على العمر المديد والشيخوخة كل مكان ،وإنه الموت الذي يسوق الضحايا إلى القبور،
المبكرة ،كل ذلك يجسد الحالة المأساوية بكل تجلياتها وتلك هي القضية التي تسيطر على الكاتبين وتغدو
الصوت المرتفع الذي يربط العملين الأدبيين بنسيج
التي تنبعث منها روائح كوابيس البؤس والشقاء قوي الأواصر مع تباين في الأحداث ،فشتَّان بينهما
والحرمان والموت. مكا ًنا وزما ًنا وأحدا ًثا ،فرواية البراري تتصل بالحروب
كما أشرت من ذي قبل ،ومجموعة المومني القصصية
إنه ذات المشهد الباعث على البؤس برواية تراب الغريب هي أفكار تراودها وتخيلات منعكسة عن ألم الواقع
للبراري ،ولكن بصورة جديدة مملوءة بالحزن، وتشظي الشخوص وخروج بعضهم عن منظومة القيم
المجتمعية ،ولكن النهايات متقاربة ومتداخلة ،تتخذ من
وتسيطر عليه روائح الحرب في بيروت «نسرين شيء الحرمان والشقاء والغربة والموت خيو ًطا متشابكة،
مختلف ،شوهت طفولتها الحرب الأهلية ،والدها تقول المومني« :سألته بصوت يرتجف :لكن ماذا؟
أغلق محل الملابس في الحمرا وانعزل في بيته، ماذا سأكتب؟ نظر إل َّي بعينيه الغائرتين أسفل
حتى ضاق عليه العيش والجيران ،تسلل وحي ًدا التراب وقال بصوت يتلوى ألمًا ،كأن أح ًدا جرحه
إلى بيروت الشرقية فاوقفوه على الحاجز ..سار حدي ًثا ،كأنه يعاني من ساعة مخاض ،والبطن خا ٍو،
ضامر وملتصق بالظهر :نزفهن .أي نزف؟ ..أنا
عدة خطوات فاهتزت المباني المهشمة ،وتطاير غبار لا أعرفهن .أجبته وقد تلبسني البله والذعر!! ظل
ودخان وصراخ اعتادته الشوارع وألفه المقاتلون يحد ُق بي كأنه ممتلئ بشيء ما ،يقض مضجعه
المحصنون ،قذيفة تائهة أو ليست كذلك ،أخبرتني الطويل ،كأنه عاني من بقايا ذاكرة متكدسة ،كأنها
نسرين بحيادية قائلة :عندما أخبرونا ،لم يجدوا تشتعل وتستعر ببقايا أحياء وقوافل موتى..
الخوف ينفذ إلى أجزائي وأطرافي المتجمدة ،كرجل
شي ًئا من ملامحه نودعها ..كان معجو ًنا وموضو ًعا يمس ُك قطاعة ويريد بترها بدم بارد ..أحسس ُت أنها
في كيس أسود محكم الإغلاق» .ولعل تكرار كلمة تعطلت جميعها ،نظرت إلى أصابعي وقد شاخت
وتجعدت ..حاولت أن ألمس بهما وجهي ..لم أستطع
الغريب في الرواية باللفظ نفسه ،أو من خلال الأحداث تحريكها».
التي تعيشها بعض الشخوص ،إنما هو مؤشر مهم لوحة فسيفسائة متحركة مثقلة بالمشاهد القاتمة
السوداوية والتشاؤمية ،فالصوت يرتجف (خوف
في المعاناة التي تخلفها تلك الحروب للبشرية ،فقسوة وقلق) ،والتساؤلات (استنكارية تعجبية) ،والعينان
الحرب وآلاتها ،والقتل والدماء ،والموت ،والقبور، غائرتان (ضعف وانكسار) ،وأسفل التراب (الحضيض
والنهاية ،كلها توحي بإفرازات ومخرجات صعبة والدونية) ،والصوت المتلوي ألمًا (الجراحات والمعاناة)،
وساعة المخاض (انتظار النتائج) ،والبطن الخاوي
يتوارثها الإنسان ويكتوي بنارها «غريبة أنا ألست (الفقر والجوع) ،والملتصق بالظهر ،والبله والذعر
كذلك؟ في أول لقاء لنا ..وربما الأخير من يدري.. (الهزيمة والرعب) ،والذاكرة المتكدسة (اكتظاظ
وثمة إشارة إلى القبر في قوله« :لم تكن غرفة ،بل وازدحام) ،واشتعالها (النار والرماد) ،ويقض المضجع
قبر كبير في قبو لا تدخله الشمس ..هل تعيشين (قلق وأرق) ،وأطرافي المتجمدة (البرد والقسوة) ،والبتر
هنا؟» .اخترقتني الكلمة ،تأملت المكان وانقبض بالدم البارد (اللامبالاة في الفعل الإنكاري) ،والأصابع
التي تشيخ وتتجعد (التسارع في الهرم والشيخوخة)،
قلبي ،من الرعب أن نموت داخل قبور كهذه».
ولعل السارد لا يكتفي بالعوامل البشرية التي تسهم
في تجذير الأزمة وحسب ،بل يسعى إلى تفجيرها
وتعزيزها بإضافة العنصر الطبيعي الكوني من مثل
الريح التي تنضاف إلى تلك العوامل البشرية الرامية
إلى تسميم الكون بالمنغصات ،بل وتحويل كل جماليات
الحياة إلى التشويه والتكسير والتخريب ،يقول البراري:
«الريح الجافة تنذر باقتلاع المنازل من جذورها،