Page 126 - merit 46 oct 2022
P. 126

‫العـدد ‪46‬‬   ‫‪124‬‬

                                                     ‫أكتوبر ‪٢٠٢2‬‬

 ‫حتى وهي محمومة وتهذي‪ ،‬طالبته بأن يحتفظ لها‬           ‫أحد السراديب الضيقة بذاكرتي التقيته بالأربعين‬
    ‫وحدها بهذا العمق في المشاعر‪ ،‬بهذه الدرجة من‬          ‫من عمره‪ ،‬وقفت وج ًها لوجه أمام مأساته التي‬

‫درجات الوصول «ليس من حقك أن تكرر شيئًا من‬            ‫جعلت منه ضعي ًفا ه ًّشا مدمنًا على كل ما هو قاتل»‬
‫تفاصيلي معها‪ ،‬فنظرات الشغف تلك‪ ،‬وفرط الجنون‬             ‫ص‪49‬؛ بلغة شاعرية حميمة تصف كل لحظاتها‬
 ‫هذا لي وحدي‪ ،‬أنا من سافرت فيك إلي هذا العمق»‬            ‫معه بالحياة «كل خاطر يأخذني إليك حياة‪ ،‬كل‬

   ‫ص‪ ،55‬تؤكد علي وجودها الدائم حتى لو ارتبط‬          ‫صباح يأتي بك حياة‪ ،‬كل جرس أو رسالة تليفونية‬
  ‫اسمه بامرأة أخرى ستكون حاضرة بينهما بكافة‬              ‫تحملك إل َّي حياة‪ ،‬كل لقاء يجمعني فيك حيوات‬
   ‫تفاصيل الحضور من دخان سجائرها المتصاعد‪،‬‬               ‫متعددة» ص‪ ،63‬ولهذا صارت قبلته التي إليها‬
 ‫ومذاق قهوتها‪ ،‬ونبرة صوتها‪ ،‬حتى رائحة الجسد‬               ‫يتجه وصارت هي خير معين لمأساته‪ ،‬تمسح‬
  ‫حين تجمعهما لحظة الانزلاق في السرير بشبقها‪،‬‬
‫وشغفها‪ ،‬وجنونها‪ ،‬ونظرات عينها‪ ،‬ساعتها ستكون‬          ‫بيدها أثر مآسيه وتربت على كتفه لعلها تخفف عنه‬
                                                     ‫«شعرت بمرارة فقده لي بعد كل هذا التعلق وكأني‬
     ‫حاضرة في كل هذه التفاصيل‪ ،‬حاضرة في كل‬             ‫طوق نجاته‪ ،‬وكأني الأمل الأخير له بهذه الحياة»‬
  ‫هذا الحضور‪ ،‬يجعلها تناجيه «ألملم منك قلبي‪ ،‬كي‬
 ‫أبعثره فيك مع كل نبضة من جديد‪ ..‬خاتمتي أنت‪،‬‬            ‫ص‪ .49‬وهي صادقة في اعترافها معه بفقده‪ ،‬في‬
                                                          ‫كل وقت تحتاج إليه فيه‪ ،‬وحضوره في الغياب‬
   ‫وأغسل وجه النعاس في الصباح بعينيك‪ ،‬فتكون‬              ‫«بصراحة الأيام ثقيلة دونك أيها السيد‪ ..‬قلبي‬
  ‫بدايتي أنت» ص‪ .51‬يسير الحب في طريقه المعتاد‬
                                                       ‫يحتاج لصدرك ليختبئ فيه وكتفي يحتاج لكتفك‬
     ‫نحو التجرد بلغة صوفية رقيقة وعبارات طالما‬                                  ‫كيلا أسقط» ص‪.113‬‬
    ‫جالت في قصائد الحب الصوفي علي مر التاريخ‪،‬‬
   ‫(الفناء) تلك العبارة المقدسة التي تتعدد دلالاتها‬   ‫حينما تتحدث المرأة عن حبها وعشقها وتفانيها في‬
   ‫في كل مرة؛ لكنها مع ذلك تحتفظ بمعناها المتعدد‬        ‫حب من تحب‪ ،‬في هذه اللحظة ذات الخصوصية‬
‫وقدرتها على تأجيج الساكن‪ ،‬وتفتيح مسالك الروح‬
‫قال لها «فمن يحب بتطرف‪ ،‬يهجر بتطرف» ص‪.52‬‬              ‫النادرة التي يجب أن تكون قد انقطعت بكل كيانها‬
    ‫فترد على عبارته بعبارة أكثر دلالة‪ ،‬أكثر صفاء‪،‬‬         ‫له؛ نراها دائ ًما تخاف من وجود المرأة البديل‪،‬‬
    ‫تخرج من روحها «من يحب بتطرف يفني ذاته‬
  ‫بمعشوقه فلا يعود منه أب ًدا» ص‪ .53‬لقد وصفته‬          ‫تبحث في كل لحظاتها عنها‪ ،‬تقارن نفسها بها‪ ،‬أو‬
   ‫بالفعل بأنه صوفي منتش حين قالت «هأنذا أقف‬           ‫تجعلها محر ًكا مه ًّما للعلاقة مع من تحب «إن ما‬
   ‫بذاكرة مثقلة بك‪ ،‬في كل لحظة ترقص في رأسي‬            ‫بيننا أقوي من أن يتكسر على رصيف الواقع من‬
    ‫كصوفي منتش‪ ،‬لا يكف عن رقصة عشقه حتى‬                 ‫أن يهزمه حضور ألف امرأة‪ ،‬فربما ستكون هي‬
                                                        ‫بمحاذاتك‪ ،‬وتفصلني عنك مئات الأميال بوعورة‬
                             ‫تسقط تعبًا» ص‪.59‬‬        ‫جغرافيتها‪ ،‬لكنك لن تتذكر سوى جغرافيتي أنا‪ ،‬لن‬
  ‫الساردة البطلة مشتتة وممزقة بين عقلها وقلبها‪،‬‬      ‫تتذكر سوى ُخطى أناملي على صدرك العاري»‪ ،‬هي‬
‫الصراع بين العقل الرافض والقلب المولع كما عرفته‬        ‫المرأة إذن التي إذا أحبت أخلصت وطلبت المعاملة‬
‫المثيولوجية اليونانية بين أبولو وديونيسوس «عقلي‬       ‫بالمثل‪ ،‬لا تريد شريكة لها فيما أحبت حتي لو كان‬
‫لا يكف عن الضجيج وقلبي لا يكف عن العويل وأنا‬             ‫ذلك نابع من التخيل والظن وتوارد الأفكار‪ ،‬لن‬
  ‫في المنتصف أتمزق» ص‪ ،82‬لماذا كل هذا التشتت‬            ‫تقبل ذلك ولا تطيق توارده حتى داخل سراديب‬
‫والتمزق والمعاناة؟ من فرض عليها هذا الحب؟ طالما‬
 ‫أن قلبها في ضجيج دائم‪ ،‬وعقلها في عويل متصل‪،‬‬              ‫الأفكار‪ ،‬وهذا ما جعلها لا تطيق تلذذه بصوت‬
  ‫لماذا هذا التحدي كما تسميه؟ لماذا هذا التعلق غير‬      ‫فيروز وهو بجانبها‪ ،‬وطلبت منه أن يخرس هذا‬
 ‫المناسب لها؟ والذي طالمًا اشتكته‪ ،‬وصارت تتحدث‬          ‫الصوت قائلة «أكره أن يشاركني وقتي فيك أي‬
                                                     ‫شيء» ص‪ .101‬غيور متطرفة في حبها‪ ،‬في امتلاكها‬
     ‫بلسان عقلها بعد أن كان قلبها مصدر حديثها‪،‬‬          ‫حتى من صوت مطربة يفضلانها م ًعا‪ ،‬دائ ًما ما‬
                                                     ‫تؤكد له أن طيفها حاضر في كل كيانه‪ :‬في شروده‪،‬‬
                                                     ‫وسكونه‪ ،‬وأفكاره‪ ،‬ونظراته والتفاتاته‪ ،‬وابتساماته‪.‬‬
   121   122   123   124   125   126   127   128   129   130   131