Page 135 - merit 46 oct 2022
P. 135

‫نون النسوة ‪1 3 3‬‬

‫محمد شكري‬         ‫مارسيل بروست‬                           ‫هنا أن يتصور كل القراء مرضى مصابين بداء‬
                                                       ‫النهار‪ ،‬تأخذهم الطبيبة منى العساسي إلى سرير‬
 ‫النهار ساعة‪ ،‬يعقبها سعينا صوب الليل في الساعة‬         ‫النفسانية التي هي شهرزاد الواقفة خلف روايتها‬
  ‫الموالية‪ ..‬وهكذا نحن حالتنا المرضية التي لا شفاء‬
‫منها إ َّل داخل الساحة الروائية‪ ،‬مساحة عليها أي ًضا‬       ‫بهدف معالجتهم جماعيًّا من خلال دواء اسمه‬
                                                     ‫الليل‪ ،‬فإذا ما حدث وع َّن لنا هذا فإننا ربما تصورنا‬
    ‫أن تشكل نصين وعلى مراحل عدة‪ :‬نص سارد‬
  ‫وآخر شارح‪ ،‬تعليقات منى العساسي التي تتخلل‬            ‫الرواية كعلاج ليلي يوتوبي لعالم مريض مجنون‬
                                                                    ‫ومختل يعاني من ديستوبيا النهار‪.‬‬
     ‫سردها ثم نص حاضر هو نص الليالي‪ ،‬ونص‬
        ‫حاضر حينًا وحاضر أحيا ًنا هو جبل التيه‪.‬‬      ‫عتبة نهائية تشبه التحليل النفسي‪ :‬من‬
                                                      ‫الثنائية القطبية إلى الثنائية النصية‬
 ‫شهرزاد لا تزال تسافر بنا في لياليها مع حكاياتها‬
      ‫التي لا تنتهي‪ ،‬تارة تسرد لنا قصصها حول‬          ‫النصوص الجديدة لا تقبل السير على قدم واحدة‪،‬‬
      ‫جبل التيه‪ ،‬والمغامرات غير المنتهية التي تدور‬        ‫ولا تؤمن بفكرة التشابه داخل نصوصها‪ ،‬بل‬

  ‫هناك بطريقتها المميزة‪ ،‬لكنها سرعان ما تعود إلى‬         ‫تسعى إلى تبني فكرة الثنائية والحديث المزدوج‬
‫مشروعها الثاني حول أيامها المتشابكة التي عاشتها‬          ‫غير الحوار‪ ،‬والانتقال من موضوع إلى آخر أو‬
                                                       ‫الجمع بين فكرتين‪ ،‬لذلك ونحن نفتح رواية ليالي‬
 ‫في ظل الصراع النفسي والقلق الوجودي‪ ،‬بين هذا‬            ‫الهدنة مطارحات الألم لمنى العساسي نلاحظ أن‬
‫وذاك تجد شهرزاد نفسها تستسلم للثنائية القطبية‪،‬‬       ‫الروائية في بداية عملها قد دخلت في مبارزة حقيقية‬
                                                       ‫بين عملين‪ :‬الأول يحمل عنوان جبل التيه والثاني‬
 ‫وتحط الرحال وسط الثنائية النصية‪ ،‬وحديثها عن‬           ‫ليالي الهدنة مطارحات الألم‪ ،‬هذه الثنائية القطبية‬
    ‫لياليها التي جعلت منها مسر ًحا للأحداث‪ ،‬إذ لا‬     ‫جعلتنا نسافر بين دفتي الرواية‪ ،‬هذا السفر الممتع‬
                                                      ‫الذي يبعد عنَّا التعب لأننا نسمع إلى شهرزاد وهي‬
 ‫تزال شهرزاد تواصل حكيها والزوار آتون من كل‬               ‫تسافر بنا بين جبل التيه وتحط الرحال بنا في‬
   ‫مكان جاعلين من حكاياتها ِقبلة ودفت ًرا يسجلون‬     ‫إحدى الليالي بطريقة شيقة تنسينا كل الخيبات‪ ،‬لأن‬
                               ‫فيه كل حكاياتها‪.‬‬      ‫طبيعة الحياة ولذتها تكمل في السفر‪ ،‬ولأن شهرزاد‬
  ‫استطاعت شهرزاد أن تسكن قصرها الأسطوري‬               ‫بارعة في الحكي‪ ،‬فهي تتحدث دون توقف رافضة‬
   ‫وأن تجلب كل السكان حولها‪ ،‬لأنها تملك القدرة‬       ‫الانتظار‪ ،‬بل تجعل من الحكايات غير المنتهية طريقة‬
  ‫على السرد والتفنن في الحكي‪ ،‬ولأنها صنعت عالمًا‬
                                                                                      ‫في جلب الزوار‪.‬‬
                                                         ‫ونحن كزوار وكقراء نستمع إلى حكاياتها حول‬
                                                       ‫جبل التيه نحس وكأننا نسكن هذا الجبل‪ ،‬أو أننا‬
                                                        ‫أي ًضا سكان أصليون ينتمون إليه‪ ،‬لكننا لا نؤمن‬
                                                       ‫بفكرة التيه‪ ،‬إنما نؤمن بأن التيه اسم جبل‪ ،‬فبين‬
                                                        ‫التيه الأول والثاني لا تزال شهرزاد مستمرة في‬

                                                                                      ‫عالمها الحكائي‪.‬‬
                                                         ‫وهنا يمكننا أن نعود كقراء وكنقاد وكجزء من‬
                                                          ‫الجمهور المذكور أعلاه إلى أننا جمي ًعا مرضى‬
                                                     ‫نعاني من الثنائية القطبية التي تجعلنا نحزن ساعة‬
                                                       ‫ونفرح ساعة‪ ،‬تجف حاجتنا إلى الحكي حينًا لكي‬
                                                       ‫تعود بنا من جفافها أحيا ًنا أخرى‪ ،‬نسعى صوب‬
   130   131   132   133   134   135   136   137   138   139   140