Page 63 - merit 46 oct 2022
P. 63

‫‪61‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

  ‫تتحدث الأشياء عنها‪ ،‬حيث “كانت تعمل جي ًدا‪..‬‬         ‫مستقبلي من الخارج‪ ،‬مصد ًرا صو ًتا عاليًا على‬
‫لكنها بعد عدة أيام ينتقل أحد الصناديق إلى محل‬         ‫حين غرة‪ ،‬لا أدري من أين أتى”‪ ،‬لتصبح أول‬
 ‫صديقه‪ ..‬تلمح بعض عمال الورشة‪ ..‬ثم تجد في‬           ‫قدرية تصيب الإنسان‪ ،‬لكنها تحفر ثقبًا في جدار‬
‫المنزل عدة أدوات جديدة تشبه أدوات الورشة في‬
                                                        ‫المستقبل فـ»يثقب الحجر حائط مستقبلي في‬
  ‫انتظار الذهاب إليها‪ ،‬تكف عن العمل من جديد‪..‬‬      ‫المنتصف‪ ،‬تلتصق به بعض ذرات التراب”‪ .‬ورغم‬
   ‫وتعود إلى ورشة التصليح”‪ ،‬حتى ييأس منها‬
                                                      ‫محاولة مسح آثار التراب‪ ،‬إلا أن الإنسان يظل‬
‫العمل‪ ،‬ويقر بيعها لأحد بائعي الروبابكيا‪ ،‬والذي‬        ‫حام ًل لأثرها “أحاول تنظيفها لكن لا تستطيع‬
‫يبيعها لمصنع آخر ليفرح بها ويشعر أنها جديدة‪،‬‬       ‫يداي الوصول إليها”‪ .‬وتستمر الحياة‪ ،‬لتبدأ عثرة‬
‫و”منشرحة للغاية‪ ،‬تعمل باجتهاد”‪ ،‬لكنها تتوقف‬
                                                        ‫جديدة‪ ،‬أو لتأتي (نهاية ‪“ )2‬حائط مستقبلي‬
  ‫فجأة‪ .‬ولا يعرف صاحب المصتع الجديد‪“ :‬لماذا‬             ‫من الداخل مليء بالأشياء المبهمة”‪ .‬و”نهاية‬
  ‫ُتحجم عن العمل فجأة”‪ ،‬وبالطبع هو لا يعرف‬             ‫‪ ”3‬لتغادر الفراشات تما ًما‪ ،‬حيث اخشوشنت‬
‫أن الماكينة تعودت‪ ،‬وألفت المكان بوسخه‪ ،‬وزيوته‬       ‫الحياة‪ ،‬و َك ُث ْرت الاصطدامات‪ .‬وتستمر محاولات‬
    ‫وشحومه‪ ،‬فلا تستطيع العمل في غير مكانها‪.‬‬         ‫جذب الفراشات التي تحدثت عنها الأم‪ ،‬لكنها في‬
                                                     ‫كل مرة‪ ،‬تهرب أو ترفض أن تكتب‪ ،‬حتى نصل‬
     ‫وزعت الكاتبة الشهادات على الجمادات التي‬           ‫إلى «نهاية ‪ ،”11‬حين لا يفيد شرب الماء‪ ،‬رمز‬
   ‫جاورت‪ ،‬وتعاملت مع الماكينة‪ ،‬دون ترتيب‪ ،‬أو‬         ‫الحياة “ألقي زجاجة الماء بعي ًدا‪ ،‬أستند إلى أحد‬
   ‫تنسيق‪ ،‬حتى تحدثت بعض الجمادات أكثر من‬            ‫الأعمدة‪ ،‬تزوروني فراشة تبدو مريضة‪ ،‬تنظر‪..‬‬
   ‫مرة‪ ،‬متفرقة‪ .‬وكان على القارئ أن ُيلِ َّم أشتات‬   ‫ثم تفتح باب غرفتي ببطء‪ ،‬تحاول أن تكتب لكن‬
                                                       ‫أجنحتها مكسورة‪ ،‬لا تستطيع أن تحركها أو‬
      ‫الشهادت التي ُتبرز في النهاية‪ ،‬الجو المحيط‬   ‫ترفعها‪ ،‬تحاول وضع خطوط ضعيفة‪ ،‬تمر عليها‬
‫بالماكينة‪ ،‬والعمل‪ ،‬لتشعر –بلا شعورها‪ -‬بالألفة‪،‬‬        ‫عدة ثوان‪ ..‬ثم تتلاشى”‪ .‬وكأن تلك الفراشات‬
                                                      ‫التي تحدثت عنها ألم في البداية‪ ،‬قد عجزت عن‬
   ‫ويشعر معها القارئ ‪-‬بشعوره‪ -‬بفك الشفرة‪،‬‬             ‫الفعل‪ ،‬فعاش السارد‪ ،‬وتلاشى‪ ،‬عندما تلاشت‬
     ‫والوصول إلى ما ترمي إليه القصة من رؤية‬
                ‫تتمثل في “الوفاء” أو «الانتماء»‪.‬‬                                        ‫الفراشات‪.‬‬
        ‫وعلى الرغم من وجود (شبه الحكاية) في‬         ‫وإذا كانت الكاتبة قد فقدت التواصل بين البشر‬
                                                     ‫(خارج)‪ .‬فإنها وجدتها في الجماد‪ ،‬في قصة «لا‬
‫القصص السابقة‪ ،‬حيث كان التركيز على (الحالة)‬
 ‫التي تؤثر في القارئ‪ ،‬وتجعله مشار ًكا في خلقها‪،‬‬         ‫شعور»‪ ،‬عندما حولت الماكينة الحديد‪ ،‬تشعر‬
                                                   ‫بالألفة مع المكان‪ ،‬وترفض أن تعمل في غيره‪ .‬بعد‬
   ‫فإنها في قصة «متكلم» قد صنعت الحكاية‪ ،‬أو‬
   ‫ما يمكن أن تكون حكاية‪ ،‬وإن لم تغادر الحالة‬         ‫أن تتنقل بين الجمادات‪ ،‬مثل لون الحائط الذي‬
 ‫الكلية التي تنبثق عنها‪ ،‬وتتشكل القصة من عدد‬          ‫يشهد بفعل الزمن عليها‪ ،‬ثم تمتنع عن العمل‪،‬‬
    ‫من الوحدات السردية‪ .‬تبدأ الأولى منها حيث‬          ‫لتتوقف تما ًما في النهاية‪ .‬ويتحدث المقعد الذي‬
  ‫يجلس السارد على المقهى‪ ،‬مع أخيه‪ ،‬وفي الأمام‬        ‫ارتاحت إليه‪ ،‬عن ما يحمله من أوساخ الورشة‪،‬‬
 ‫توجد صفحة بيضاء‪ ،‬ويخبره أخوه بأن ذي ًل قد‬             ‫فتشعر بالأمان‪ ،‬فتعمل‪ ،‬وكذلك حوائط المطعم‬
‫نبت أسفل رأسه من الخلف‪ .‬فيبدأ السارد بالفعل‬         ‫الذي يرتاده عامل الورشة‪ ،‬وأرضية المنزل التي‬

      ‫يشعر بوجود الذيل‪ ،‬بعد خمسين كلمة من‬               ‫نقل العامل إليها الأرض الصلبة التي تألفها‬
   ‫الإقناع‪ ،‬يربطه الأخ في رجل المنضدة‪ ،‬ويرحل‪.‬‬        ‫الماكينة‪ ،‬فتنخدع وتعمل‪ ،‬وكذلك ملابس العامل‬
                                                   ‫بما تحمله من وسخ الورشة‪ ،‬فتظن أنها بالورشة‬
      ‫فيبدأ السارد رحلة الخوف‪ ..‬مما؟ من نفس‬           ‫فتعمل‪ ،‬وحتى أظافر العمل‪ ،‬والأظافر الأخرى‪،‬‬
 ‫كلمات الإقناع‪ ،‬يقولها الصديق في الأذن القريبة‬     ‫أي ًضا بما تحمله من وسخ الورشة‪ ،‬فتعمل إلى أن‬
 ‫من فمه عن الوضع السياسي فـ»تبتعد أصوات‬

    ‫نرد الطاولة قلي ًل في المقهى الذي نجلس فيه‪،‬‬
   ‫تبدأ كلمات الإقناع تأكل أذني اليسرى القريبة‬
   58   59   60   61   62   63   64   65   66   67   68