Page 131 - merit 41- may 2022
P. 131

‫نون النسوة ‪1 2 9‬‬                                                             ‫تعيد الأيام كرتها الأولى‪.‬‬
                                                     ‫وقد شكل الانتماء للمكان في تلك اللحظة التاريخية‬
   ‫و تبلوره في كلمات واضحة؛ فإنها كانت تسائل‬
 ‫نفسها «كيف تحتمي قاهرة الشمس بمن يختبئون‬              ‫عام ًل ثانو ًّيا في خيارات معظم الشخصيات بينما‬
                                                     ‫كان العامل الأبرز في خيارات بعضهم وعوا ذلك أم‬
    ‫منها؟» ص‪ ،21‬بكل ما يحمله السؤال من إدراك‬          ‫لم يعوه‪ ،‬فها هي أم فضل الله ترفض الرحيل معه‬
  ‫عميق لتباين واضح في الهوية يقتضي أن تتمسك‬
                                                        ‫إلى فرنسا رغم أنها لم تمانع انضمامه إلى فيلق‬
   ‫ببقائها في أرضها‪ ،‬إلا أنها حين حاولت أن تثني‬       ‫المعلم يعقوب‪ ،‬ومن ثم الجيش الفرنسي في مصر‪،‬‬
      ‫فضل الله عن عزمه الرحيل مع الفرنسيين لم‬         ‫إلا أنها آثرت أن تموت بأرضها قائلة‪« :‬لقد كبرت‬
     ‫تستطع أن تبلور اختلا ًفا واض ًحا غير اختلاف‬
                                                        ‫يا فضل‪ ،‬ولا أتحمل الغربة‪ ،‬سأعود إلى الصعيد‬
   ‫الطائفة الدينية‪ ،‬غير أنها أدركت وهي في موقعها‬      ‫إلى أهلي وقريتي حتى أدفن هناك» ص‪ .53‬وكذلك‬
  ‫في مصر ما لم يدركه كثيرون إلا بعد سفرهم إلى‬
 ‫فرنسا‪ ،‬أن الفرنسيين مستعدون للتخلي عن دينهم‬           ‫رفضت محبوبة زوجة فضل الله السفر ورفض‬
‫إن حقق لهم ذلك أي مكاسب إضافية‪ ،‬وأن نابليون‬          ‫أبوها جرجس‪ ،‬فعندما طلب منها فضل أن تصحبه‬
‫على أتم الاستعداد أن يعلن إسلامه إن تراءت له أي‬
   ‫منفعة تقتضي ذلك‪ ،‬ومن ثم فقد أبطلت محبوبة‬               ‫إلى فرنسا وهي الزوجة المحبة الولهة بزوجها‬
  ‫حجة زوجها من ناحيتين؛ الأولى اختلاف الطائفة‬          ‫«رفضت‪ ،‬رفضت بعناد عجيب‪ ،‬شيء ما يربطها‬
   ‫الدينية للفرنسيين إن صح تدينهم‪ ،‬واستعدادهم‬
   ‫للتخلي عن دينهم واعتناق الدين الإسلامي الذي‬           ‫بتلك الأرض لا تعرفه‪ ،‬وتد آخر أقوى من وتد‬
‫يهرب فضل الله من معتنقيه في مصر معتق ًدا أن من‬                                    ‫فضل الله» ص‪.52‬‬
‫الأفضل له أن يعيش بين أناس يدينون بنفس دينه‪.‬‬
‫ورغم إخفاق محبوبة في محاولاتها فإنها لم تستطع‬             ‫وإن عبرت أم فضل الله بوضوح عن انتمائها‬
  ‫أن تقتلع جذورها الممتدة في الأرض‪ ،‬وهي جذور‬              ‫للمكان؛ حيث أرادت أن تدفن حيث ولدت‪ ،‬لم‬
                                                           ‫تستطع محبوبة أن تعبر عن انتمائها للوطن‬
     ‫أقوى من ارتباطها بفضل الله الذي ظلت تدور‬           ‫بوضوح‪ ،‬وإن أصدرت عنه خياراتها لأن المكان‬
  ‫بفلكه حتى هجرها‪ ،‬ثم ظلت تدور بفلك ابنه الذي‬            ‫اتخذ عندها أبعا ًدا أعمق في الوجدان وأبعد عن‬
                                                      ‫اللسان‪ ،‬فلم يملك المصريون حينذاك معج ًما لغو ًّيا‬
                          ‫أعطته اسم أبيه نفسه‪.‬‬         ‫يصوغون من خلاله تعلقهم بوطنهم‪ ،‬فلم يكونوا‬
     ‫وكما كان الانتماء للمكان وللوطن داف ًعا للبقاء‬   ‫إلا ضحايا معارك المتنازعين عليه لعصور طويلة‪،‬‬
   ‫في مصر‪ ،‬فقد كان كذلك داف ًعا للرحيل من أرض‬        ‫وانحصرت خياراتهم إما في الصمت والخضوع أو‬
 ‫النشأة‪ ،‬إلى أرض الميلاد؛ كما فعلت جين أو سعيدة‬        ‫موالاة إحدى الفرق لعلهم يجدون عندها مكاسب‬
‫التي أتت إلى مصر طفلة ذات سبع سنوات ونشأت‬              ‫وأوضا ًعا أفضل‪ ،‬ولم تكن فكرة النضال من أجل‬
  ‫في بيت إبراهيم بك جارية من‬
    ‫جواريه‪ ،‬ولكنها لم تنس أب ًدا‬                                         ‫الاستقلال قد وجدت طريقها‬
‫أنها فرنسية مسيحية وإن أتقنت‬                                          ‫إلى كثير منهم‪ ،‬ومن ثم تراجعت‬
     ‫التركية والعربية ومارست‬
     ‫شعائر المسلمين‪ ،‬واحتفلت‬                                                 ‫فكرة الانتماء للوطن على‬
      ‫بأعيادهم‪ ،‬واعتادت أجواء‬                                             ‫المستوى الظاهري إلى سفح‬
    ‫المحروسة المشمسة وجوها‬                                             ‫هرم الهوية بينما شكل الانتماء‬
   ‫الدافئ‪ ،‬حتى إذا ما عادت إلى‬                                        ‫الديني أو بالأحرى الطائفي قمة‬
  ‫وطنها بعد عشرين سنة ظلت‬                                               ‫هذا الهرم‪ ،‬خاصة عند التذرع‬
   ‫فيها تهفو نفسها للتحرر من‬                                            ‫من أجل قرار ما مهما اختلفت‬
     ‫العبودية والعودة إلى بيتها‬                                        ‫القرارات وتباينت‪ ،‬فرغم أن ما‬
   ‫المصنوع من جذوع الأشجار‬                                                ‫يربط محبوبة بوطنها انتماء‬
                                                                         ‫معقد لا تستطيع ‪-‬بما توافر‬
                                                                         ‫لديها من معارف‪ -‬أن تدركه‬
   126   127   128   129   130   131   132   133   134   135   136