Page 26 - merit 41- may 2022
P. 26

‫العـدد ‪41‬‬  ‫‪24‬‬

                                                                 ‫مايو ‪٢٠٢2‬‬

                                    ‫النفسي»(‪.)27‬‬                  ‫لتد َّل على غير الظاهر منها‪ ،‬وال ُحكم في ذلك للسياق‬
                                                                     ‫لا للمعجم‪ .‬فأبان عن منهجه التحليلي‪ ،‬ونظر إلى‬
     ‫وال ِّسياق النفسي [بحسب البعض] قرينة أقوى‬                       ‫المفردات في علاقاتها ومواقعها‪ ،‬وأظهر أنه كان‬
  ‫من سياق النص [أي ال ِّسياق اللغوي]‪ .‬وقد تتنازع‬                     ‫على وعي بطبيعة العلاقة التي تنظم الدلالات في‬
   ‫هاتان القرينتان في ترجيح تأويل الخطاب‪ ،‬إلا أ َّن‬                ‫التركيب‪ ،‬ذلك أ َّن التأويل لا يتم بغير العلاقة بين‬
  ‫ال ِّسياق النفسي يمثِّل البِ ْن َية الخفية للحقائق وعليه‬                    ‫المعنى الحقيقي والمعنى المجازي»(‪.)23‬‬
                                                                   ‫الواقع‪ ،‬بحسب أصحاب الموقف ال ِّسياقي‪ ،‬أ َّن لكل‬
     ‫مع ِّول كبير‪ .‬خصو ًصا إذا ظفرنا بمفاتيح ُتعين‬                   ‫مفردة معنى حقيقي ومعنى مجازي‪ ،‬والانتقال‬
  ‫على تق ِّصي البِ ْن َية الخفية للخطاب وتكشف أسرار‬
  ‫تنا ُزعه الدلالي‪ .‬وفي هذا المجال يق ِّدم لنا ابن الأثير‬         ‫من المعنى الحقيقي‪ ،‬أو بالأحرى الحرفي‪ ،‬إلى المعنى‬
   ‫تجربة المتنبي في مدح كافور‪ .‬إذ يقف عند بعض‬                       ‫المجازي المغاير للمعنى الحرفي لا يتم إلا بنا ًء على‬
 ‫أبياته التي ُس ِّميت (ال ِّشعر المو َّجه) ويق ِّدم لها مها ًدا‬    ‫قرينة‪ ،‬أ ّي علامة أو دليل يصرف ذهن المتلقي عن‬
 ‫سري ًعا يم ُّر من خلاله على مفهوم ال ِّسياق النفسي‪.‬‬              ‫المعنى الحرفي الظاهر للمفردة إلى معناها المجازي‪.‬‬
                                                                  ‫بعبارة أخرى‪« ،‬لا يد ّل اللفظ [‪ ]..‬على معنى بنفسه‪،‬‬
    ‫فأشعار المتنبي في مدح كافور يد ُّل ظاهرها على‬
                                                                 ‫وإنما يحتاج في هذه الدلالة إلى «القرينة» التي تعيِّن‬
    ‫المدح‪ ،‬وسياق النص فيها يؤكد على هذه الدلالة‪.‬‬                   ‫دلالته المجازية‪ ،‬فيخرج عن معناه الوضعي إليها‪،‬‬
                                                                    ‫ثق ًة من أ َّن السامع لا ب َّد ملتفت إلى قرائن الكلام‬
      ‫وسياق الموقف يبيِّن أ َّن المتنبي يقف بين يدي‬
    ‫كافور ماد ًحا ليحظى بوده‪ .‬أما ال ِّسياق النفسي‬               ‫التي ُتعينه على فهم المعنى وتوجيه الدلالة»(‪ ،)24‬ومن‬
    ‫فهو‪ :‬حقيقة أ َّن المتنبي كان يم ُق ُت كافور و ُيظهر‬                    ‫ُجملة هذه القرائن وأهمها قرينة ال ِّسياق‪.‬‬
    ‫المودة ( ُت ْقية) وكان يتع َّمد أ ْن ُيورد أبيا ًتا تحتمل‬
    ‫ال َّذم والمدح‪ .‬حيث يدعم سياق النص المدح بينما‬                     ‫من هذا المنظور‪ ،‬يع ِّرف عبد الوهاب المسيري‬
                                                                       ‫المجاز بأنه «استعمال أية لفظة في غير معناها‬
      ‫ال ِّسياق النفسي يدعم ال َّذم‪ .‬ومن هنا قلنا‪ :‬إ َّن‬            ‫المعجمي (الحقيقي أو الأصلي) لوجود علاقة بين‬
‫ال ِّسياق النفسي ُي َع ُّد قرينة أقوى من سياق النص في‬             ‫المعنى اللغوي الأصلي لهذه اللفظة والمعنى المجازي‬
 ‫تق ِّصي حقيقة تأويل الخطاب‪ .‬لكن تظل العهدة على‬                   ‫(الجديد) الناتج عن ذلك الاستعمال (بشرط وجود‬
 ‫المفتاح الذي سيوصل إلى معرفة باطن النفسية(‪.)28‬‬                     ‫قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي للفظة)»(‪.)25‬‬
                                                                 ‫تجدر الإشارة إلى أ َّن ال ِّسياق الذي نقصده هنا ليس‬
      ‫إذن‪ ،‬بحسب الموقف ال ِّسياقي‪ ،‬يمكن أ ْن نقول‬                   ‫ال ِّسياق اللغوي فقط‪ ،‬بل أي ًضا سياق الموقف‪ ،‬أي‬
   ‫إ َّن ال ِّسياق بأنواعه هو الذي يفرض المعنى المُراد‬              ‫كل ما يتصل بعملية الكلام أو السرد من ظروف‬
                                                                      ‫وملابسات‪ ،‬مثل مكان وزمان التكلُّم‪ .‬فالموقف‬
       ‫للمتكلم‪ .‬وبما أ َّن المعنى المُراد للمتكلم هو ما‬             ‫أو المقام يؤثر بشكل مباشر على السلوك اللغوي‬
    ‫ينبغي أ ْن ينصرف إليه ذهن المتل ِّقي‪ ،‬فإن المعنى‬                   ‫للمتكلم‪ .‬وبذلك يرتبط ال ِّسياق اللغوي بسياق‬

       ‫المراد للمتكلم يصبح هنا هو المعنى الحقيقي‪،‬‬                                        ‫الموقف ارتبا ًطا وثي ًقا(‪.)26‬‬
                                                                    ‫ليس هذا فحسب‪ ،‬حيث يوجد سياق ثالث لا يقل‬
    ‫سواء أكان هذا المعنى هو المعنى الحرفي القريب‬                  ‫أهمية‪ ،‬ألا وهو ال ِّسياق النفسي‪[« .‬و] أهم ما يمتاز‬
                                                                     ‫به ال ِّسياق النفسي أنه ليس مادة ُلغوية صادرة‬
   ‫أم المعنى المجازي البعيد‪ .‬وبذلك لا يصبح المجاز‬                  ‫عن المتكلم‪ ،‬بل هو قائم على معرفة مسبقة بالدافع‬
                                                                 ‫النفسي الحقيقي الذي يتوارى خلف ستار الكلمات‪،‬‬
 ‫نقي ًضا للحقيقة كما ير ِّوج الكثيرون‪ ،‬لا سيِّما أتباع‬
 ‫الظاهرية من السلفيين الذين ُي ْع ِرضون عن التأويل‬                   ‫أو بالأحوال التي َص َد َر فيها الخطاب‪ .‬ومن هنا‬
                                                                  ‫وقف العلماء عند تعريف القرينة الحالية [نسبة إلى‬
   ‫والرأي تم ُّسكا منهم بظاهر الكتاب وال ُّسنة‪ .‬ومن‬               ‫حال المتكلم] التي تتفق مع ما ُعرف لاح ًقا بال ِّسياق‬
   ‫هذا المنطلق‪ ،‬نرى أنه لا وجه للمقابلة بين المعنى‬

    ‫الحقيقي والمعنى المجازي‪ ،‬حيث يمكن أ ْن يكون‬
‫المعنى المجازي هو نفسه المعنى الحقيقي (أي المعنى‬

     ‫المُراد للمتكلم)‪ .‬وإذا كان لا ب َّد من َع ْقد مقابلة‪،‬‬
    ‫فيجب أ ْن تكون هذه المقابلة بين المعنى المجازي‬

                                 ‫والمعنى الحرفي‬
   21   22   23   24   25   26   27   28   29   30   31