Page 47 - merit 41- may 2022
P. 47

‫‪45‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

  ‫تجمعهما‪ ،‬وتعكس الانطباعات التي يولدها الشاعر‪/‬‬                                              ‫الأنوار والتنوير‪.‬‬
‫المبدع عند مواجهته للفضاء(‪ ،)20‬هذا علاوة على كونها‬            ‫لكن هذه الرؤيا الفريدة المعبر عنها فضائيًّا تفقد‪ ،‬كما‬
 ‫مشحونة بالقيم التي يجب أن تفهم في سياقها الكلي‪.‬‬             ‫هو واضح في المقاطع السالفة‪َ ،‬ن َف َسها الشعري لصالح‬

    ‫فرغم كون دلالات هذه التقاطبات تبقى متناقضة‬                    ‫نفس نثري ُي َغلِّب الفكرة على الصورة‪ ،‬ويضحي‬
      ‫خارج كل السياقات‪ ،‬إلا أنها لا تحافظ على هذه‬               ‫بالتركيب الانزياحي والتكثيف الدلالي تار ًكا المجال‬
                                                                 ‫للغة انسيابية تقريرية‪ .‬فالجري وراء بهاء الرؤيا‬
  ‫المدلولات‪ ،‬فالتعارض القائم بين طرفي هذه الأزواج‬             ‫يجعل النفس الشعري يتقطع‪ ،‬فتفقد الجملة الشعرية‬
‫قد يتقلص ويختصر في شكل تكامل‪ ،‬بل وقد يتلاشى‬                     ‫إشراقها‪ ،‬وتصير مجرد كلمات تنوء بحمل الفكرة‬

                            ‫ليترك مكانه للترادف‪.‬‬                  ‫التي لا نجادل في أصالتها وفرادتها‪ ،‬لكن جذوة‬
 ‫إن السمة الطباقية التي تمنحها اللغة لهذه التقاطبات‬           ‫الشعري تخبو كلما اقتربنا من رياح النثري‪ ،‬ويكفي‬
 ‫الفضائية لا يمكن‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬التعويل عليها وحدها‬             ‫أن نقارن بين المقاطع السابقة وبين المقطع الشعري‬
                                                              ‫التالي‪ ،‬لنتأكد أن نار الشعر قد تخبو أحيا ًنا‪ ،‬لكنها لا‬
      ‫في تحديد دلالات طرفي التقاطب الفضائي‪ ،‬لأن‬                ‫تنفك تلفح وجوهنا في الكثير من الأحيان (ص‪:)111‬‬
 ‫الكاتب والشاعر لا يلزمان نفسيهما بالدلالات القبلية‬
‫والمتعارف عليها لهذين الطرفين‪ ،‬فالشعر خلق وإعادة‬                                ‫تحيط بسوادك أسوار زيزفونية‬
                                                                               ‫مالحة صلبة كأيام القيظ الفاسي‬
   ‫بناء للممكن وحتى المستحيل‪ ،‬وبالتالي نرى أن أي‬                       ‫وحين تنشر لعابك أسفل تضاريس المحنة‬
    ‫مقاربة لهذه التقاطبات الفضائية لن تكون ناجعة‬                            ‫تجد ما ًء مبحو ًحا في حوضك الأهوج‬
   ‫إلا إذا انطلقت من قناعة بسيطة كنا قد أكدنا عليها‬
   ‫سال ًفا مفادها أن الدلالة ُت ْبنى ولا ُت ْعطى‪ ،‬فالدلالات‬                            ‫المرشوش بنيزك فاضح‬
    ‫القبلية والجاهزة تضيع ملامحها دائ ًما عندما نلج‬
 ‫عالم النصوص‪ ،‬فمن الأفضل أن نتأبط المعنى البنائي‬               ‫‪ -3‬المسار الثالث‪ :‬الأعلى والأسفل أو‬
     ‫التشييدي النابع من تفاعل الدارس‪ /‬القارئ مع‬                       ‫الطهراني والشهواني‬
 ‫النص‪ ،‬بدل البحث عن المعنى الحقيقي الذي لا وجود‬
                                                               ‫إن التفكير في مقاربة الفضاء تقتضي إدراك هندسة‬
                             ‫له في عالم القصيدة‪.‬‬                ‫الفضاء الأدبي عمو ًما كما تتجلى داخل النصوص‪،‬‬
     ‫من هذا المنطلق نجد أن التجربة الفضائية لأحمد‬                 ‫لذلك عمل أغلب الدارسين ‪-‬إضافة إلى التأسيس‬
  ‫العمراوي والتي نحن بصدد مقاربتها‪ ،‬يهيمن عليها‬              ‫النظري للفضاء الأدبي‪ -‬على صوغ أدوات تتمكن من‬
   ‫التقاطب الفضائي «أعلى‪ /‬أسفل»‪ ،‬فكل قصائد هذا‬               ‫الإمساك ببنيته داخل النص واستكشاف دلالاته‪ ،‬وفي‬
    ‫الديوان تنضح بـ»الأسفل» الذي يحضر بقوة في‬                   ‫هذا الإطار صاغ «يوري لوطمان» مفهوم الأنساق‬
  ‫مقابل الأعلى الذي لا يحضر إلا لما ًما‪ ،‬ليس باعتباره‬            ‫المكانية عند دراسته لأشعار الشاعرين الروسيين‬
    ‫مقاب ًل موضوعيًّا للأسفل‪ ،‬فالأعلى عند العمراوي‬              ‫«تيوتشيف» و»زابولوتسكي»‪ ،‬بالتركيز على الزوج‬
     ‫لا يحيل على الدلالات الاعتيادية المتمثلة في العلو‬
 ‫والسمو والروحانية والقداسة‪ ،‬بل يدل على الماضوية‬                    ‫الفضائي «أعلى‪ /‬أسفل»(‪ ،)19‬وكذلك فعل «جان‬
                                                               ‫فيسجربر» عندما مشي في نفس الطريق‪ ،‬وعمل على‬
                    ‫والروحانية المفقودة (ص‪:)67‬‬                ‫تطوير وتعميق تصورات سلفه «لوطمان»‪ ،‬من خلال‬
    ‫يعرف البدوي أسفار الطريق بجسد كلبه الأجرب‬                ‫مفهوم «التقاطبات الفضائية» التي هي ثنائيات ضدية‬
                                                                ‫تتضمن تقاب ًل بين قوتين أو عنصرين متناقضين‪.‬‬
       ‫يضع يده الخشنة على جرح الحضارة الملساء‬
                                 ‫يتبوأ زمنًا كان‪..‬‬               ‫فهذه التقاطبات الفضائية‪ ،‬حسب «فيسجرير‪ ،‬إلى‬
                                                               ‫جانب تضمينها لقوى وعناصر متناقضة ومتقابلة‪،‬‬
                ‫كان فيه الأعلى مسيط ًرا على الأسفل‬            ‫هي تتوافق بل وتتماثل مع العلاقات الموضوعية التي‬
                    ‫والطريق واحد‪ ،‬والجبة واحدة‪.‬‬              ‫يقيمها الكاتب مع الفضاء‪ ،‬فهي تترجم التوترات التي‬

‫فالأعلى المقدس بروحانياته صار مجرد ذكرى في عالم‬
‫مادي‪ ،‬عالم لا يعير اهتما ًما لما سلف‪ ،‬ولا يرى فيه إلا‬
‫نكو ًصا وتخل ًفا‪ ،‬لكن الشاعر يأبى إلا أن يعاكس التيار‬
   42   43   44   45   46   47   48   49   50   51   52