Page 28 - ميريت الثقافية رقم (28)- أبريل 2021
P. 28

‫العـدد ‪28‬‬   ‫‪26‬‬

                                                         ‫أبريل ‪٢٠٢1‬‬

‫د‪.‬أحمد يحيى علي‬

‫المدح علامة ثقافية عربية‬
‫الدوافع‪ ،‬المظاهر‪ ،‬النتائج‬

‫إننا بصدد مشكلتين؛ الأولى‪ :‬تتعلق بالمادح الذي قد يلجأ في شطحة‬
‫منه ومبالغة إلى ما ينافي الحقيقة المعيشة والمتعارف عليها في‬
‫الواقع عند عزمه صناعة صورة مثالية للمدوح‪ ،‬الثانية‪ :‬تتعلق‬
‫بالمفعول الممدوح وما قد يصيبه من أضرار إزاء هذه الحالة‪ .‬إن هذه‬
‫الحالة النفسية لها عواقبها التي قد لا تقتصر على الفرد الممدوح‬
‫وحده‪ ،‬بل على السياق الجمعي المحيط به‬

‫من مسألة احتياج كل طرف إلى غيره أم ًرا مبر ًرا وداف ًعا‬     ‫الحياة والارتباط بها حبًّا وحر ًصا يعكس غريزة‬
   ‫للسعي والمشي في مناكب الأرض؛ لغاية الاستكشاف‬
                                ‫وتحقيق الإشباع‪.‬‬               ‫وفطرة إنسانية متوارثة منذ الأب آدم عليه السلام‬
                                                             ‫الذي أكل من الشجرة نسيا ًنا منه ومخالفة لأمر ربه‬
         ‫مظاهر المدح وأسئلته‬                                ‫بالاجتناب‪ ،‬مدفو ًعا بوسواس شجعه على ذلك بالقول‪:‬‬
                                                          ‫« َف َو ْس َو َس إِ َل ْي ِه ال َّش ْي َطا ُن َقا َل َيا آ َد ُم َه ْل َأ ُد ُّل َك َع َل َش َج َر ِة‬
     ‫والمدح سلوك قد يترتب عليه ممارسات فعلية؛ فهو‬          ‫ا ْل ُخ ْل ِد َو ُم ْل ٍك َّل َي ْب َل»(‪ ،)1‬لكن هذه الرغبة قد تتطور تب ًعا‬
‫انتقاء واختيار من معجم اللغة (مفرداتها وجملها) لما من‬      ‫لدوافع الإنسان وغاياته خلال رحلة العمر؛ فلا تقتصر‬
 ‫شأنه تسليط الضوء على الجوانب الإيجابية في الممدوح؛‬          ‫على مجرد الوجود فحسب‪ ،‬لكنها تسمو إلى ما يمكن‬
                                                             ‫تسميته الحضور المميز‪ ،‬أو الحضور العبقري‪ ،‬الذي‬
     ‫بغرض تحسين صورته في العيون وزيادة مساحة‬             ‫يمنح صاحبه مكا ًنا ممي ًزا عن غيره‪ ،‬هنا يتبدى لنا الشكل‬
   ‫الالتفاف حوله والتأييد له والارتباط به على المستوى‬     ‫العمودي للبناء الإنساني‪ ،‬الذي يجعل من أفراد المتجمع‬
‫النفسي والذهني؛ وبغض النظر عن هذه الصورة المثالية‬         ‫البشري على اتساع أممه‪ ،‬ويجعل من الأمة الواحدة على‬
  ‫المصنوعة للممدوح بأدوات شتى‪ ،‬منها اللغة فإن هذه‬          ‫كثرة عدد أبنائها درجات في القوة المادية والمعنوية؛ في‬
‫الحالة من شأنها تعزيز فرص الممدوح؛ لتحقيق ما أطلقنا‬         ‫العلاقة بالله قر ًبا وبع ًدا‪ ،‬في العلم‪ ،‬في المال‪ ،‬في المعرفة؛‬
    ‫عليه (الحضور العبقري) أو (الحضور المميز)‪ ،‬وإذا‬       ‫هذه الهيئة العمودية تدفعنا إلى الوقوف المتأمل أمام قوله‬
  ‫نظرنا ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬إلى مكتبتنا الشعرية العربية‬     ‫تعالى‪َ « :‬و ُه َو الَّ ِذي َج َع َل ُك ْم َخ َل ِئ َف ا ْ َل ْر ِض َو َر َف َع َب ْع َض ُك ْم‬
   ‫نجد أن المدح غرض شعري له جذوره في تراثنا‪ ،‬منذ‬           ‫َف ْو َق َب ْع ٍض َد َر َجا ٍت لِّ َي ْبلُ َو ُك ْم ِف َما آ َتا ُك ْم إِ َّن َر َّب َك َس ِري ُع‬
‫زمن ما قبل الإسلام‪ ،‬وقد اتخذ في صياغته أشكا ًل عدة‪،‬‬        ‫ا ْل ِع َقا ِب َوإِ َّن ُه َل َغ ُفو ٌر َّر ِحي ٌم»(‪ ،)2‬وفي ظل هذه الهيئة يبرز‬
 ‫تعكس الكائن في الواقع المعيش عمو ًما؛ فقد يسعى المرء‬     ‫التنوع والاختلاف الذي يضفي على الحياة ثرا ًء ويجعل‬
   23   24   25   26   27   28   29   30   31   32   33