Page 24 - ميريت الثقافية رقم (28)- أبريل 2021
P. 24
العـدد 28 22
أبريل ٢٠٢1
لكن هذا التكوين هو فعليًّا خارطة المكان أتج ّول ،أعبر ،أتن ّقل ،أمر ،أعود .لا يكف عن
الشعري المج ّردة هنا ،لو تخيلنا أنفسنا نتأملها استخدام ال ّدالين المكانيين :هنا /هناك ،دون
تسمية للمدن ،فلا قاهرة ولا مدريد ،كأن هذا
من أعلى.
في الحقيقة ،ثمة «مثلث كبير» ُيهندس حدود اتلنتهجرضي ُدقأدكمثا َرالمذانتكاال ٍفشالعترجةسفييدممقاابيلقٍة مصدع.
العالم الشعري .تتخبط الذات بين أضلعه مب ّدل ًة دراجة الأب التي يتكرر حضورها ،سواء
كعلامة طليقة على ذروة حياته ،أو كشاه ٍد مقيّد
بينها ،ذها ًبا وعودة :ضلع مسقط الرأس، بسلسلة على جثمانه في لحظة «ال ُغسل» .يتفق
وضلع «البلاد الجديدة» كما ُتدعى شعر ًّيا، الابن والأب على فكرة التنقل الدائم ،لكنهما
وضلع «المقبرة» حيث يوار َى العالمان مكا ًنا يختلفان في إيقاع المشهد باختلاف أداة الحركة.
ثالثًا ،لتتحد اللغتان أخي ًرا على شرف التراب: يبدو أحمد يماني مهجو ًسا بالمكان منذ أول
برج بابل القادر وحده على توحيد اللغة ولو كتبه «شوارع الأبيض والأسود» ،وتعكس
جميع عناوين مجموعاته الشعرية بلا استثناء
بمحوها. ذلك الولع« :تحت شجرة العائلة»« ،وردات في
دائ ًما الذا ُت عالقة في الأمكنة ،على النواصي الرأس»« ،أماكن خاطئة»« ،منتصف الحجرات»:
وفي التخوم والحواف .الذات ،كانت في مسقط جميعها عناوين يحتل بطولتها المكان ،وتختبر
الرأس تقف «على ناصية شارعين» (أولاد التموقعات المكانية وعلاقاتها سواء رأسيًّا
الحي) وفي الحاضر تقسم المدينة إلى نصفين من فوق لتحت ،أو أفقيًا من البدء للمنتصف
مع الحبيبة السابقة عقب غرا ٍم مغدور ،بحيث للنهاية .هذا الولع تترجمه التجربة الشعرية
لا يلتقيان صدفة .دائ ًما يضع المكان حائ ًل ضد ليماني بوضوح ،فالانتقال المكاني لا يسم فقط
اتساق الذات ،حتى الرغبة في أن يتكرر الطريق الذات الإنسانية ،بل حتى الكلمات التي تتنقل
إلى البيت (قرب البيت) وهو ما يبدو مع ًطى بين مواضعها ،حيث الكتابة نفسها هي حركة
بديهيًّا ،لا تتحقق .افتقا ٌد لن يلبث أن يجعل الكلمات في حي ٍز مكاني هو الورقة (إنه مجد ًدا
الذات تتمنى لو كانت «داخل النوافذ جميعها» تمثي ٌل رمزي للفعل الشعري بالذات) ،وحيث
ُيجلب النص إلى منطق الواقع في إدراك المكان
(نوافذ البيت). الحسي وتحريك موجوداته« :ح ّركت بعض
لكن يماني يفعل ما هو أعمق ،بتقريب حدود
الجسد إلى حدود المكان ،مكتسبًا أبعاده أفقيًّا الكلمات /نقلتها من أماكن خاطئة».
العلاقات داخل اللغة الشعرية عمو ًما علاقات
ورأسيًّا لدى تأ ّمله .إن قصيدة مثل «يدي مكانية ،جوا ٌر لا تعا ُقب ،محو ٌر رأسي استبدالي
الخائفة» ُتبرز ذلك بنصاع ٍة مشهدية ،بالتفات
مدهش للإحداثيات انطلا ًقا من خريطة الجسد لا أفقي تعاقبي ،حيث تتحقق دلال ٌة ما دون
غيرها من طريقة انتظام بعينها للعلامات.
الإنساني نفسه« :أفكر في يد هذه المرأة/
لا أفكر في كرسيها المتحرك /على حصى وباختلاف علاقات «الجوار» يتغير أفق
صغير /،أفكر في يدها وأتملاها كقطعة نقود الدلالة نفسه حتى لو لم يتغير جوهر «المادة»
جديدة لن أنفقها /،هي ُتسقط نظرتها على الشعرية .والمكان في مجموعة يماني الجديدة
ِرجلي مباشر ًة /،ولا تفكر في يدي /،لا تقصد ُيعبِّر عن تكوينه انطلا ًقا من العنوان الذي يتخذ
تذكيري أنني أتحرك /لكنها لم تتدرب بعد على
رفع عينيها وشد حاجبيها وتقطيب جبينها/ من «المثلث» شك ًل أساسيًّا ودا ًّل ،ووصو ًل
حتى تتلاقى النظرات في مستوى ما يصعد للقصيدة الأخيرة ،أطول قصائد الكتاب ،والتي
من الأسفل /.كان تلاقي النظرات في ذلك
المستوى /كافيًا ألا أتأمل يدي الخائفة». منها استمد عنوانه هذا .ورغم أنني لا أحب
الأضلاع الثلاثة تعكس أي ًضا الأزمنة الثلاثة: الإفراط في تأويل ما يسمى بالعتبات النصية،
ماضي الذات ،وحاضرها ،ومستقبلها الذي