Page 23 - ميريت الثقافية رقم (28)- أبريل 2021
P. 23

‫‪21‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

      ‫الأخروية لصالح تناص مع نص الشاعر‬               ‫من وع ٍي خطي أفقي‪ُ ،‬يحاكي تراتبية الحياة من‬
 ‫نفسه‪ ،‬فقصيدة «الوداع» تكاد تكون استلها ًما‬            ‫بزوغ شروقها وحتى قيامتها‪ ،‬ليغدو اقتراب‬

    ‫بنائيًا لقصيدة سابقة للشاعر هي «الحب»‪،‬‬           ‫الذا ُت من النهاية‪ ،‬قصيد ًة تلو أخرى‪ ،‬هو رحلة‬
     ‫حيث يجري إنتاجها بنفس الآلية بالضبط‪:‬‬                  ‫الوجود كله من المعنى‪ /‬اللغة‪ ،‬إلى العدم‪/‬‬
    ‫دا ٌل تكراري‪ ،‬يمثل معنًى مج ّر ًدا‪ُ ،‬يختبر مع‬                                       ‫انتفاء اللغة‪.‬‬
 ‫كل سطر بتعري ٍف جديد‪ ،‬في سياق ن ٍص طوي ٍل‬
  ‫متصل‪ ،‬وينتهي من حيث بدأ في بنية قصيد ٍة‬             ‫صد ٌع هائل بين السطر الأول في الكتاب‪« :‬أمد‬
                                                        ‫يدي على استقامتها»‪ ،‬والسطر الأخير‪« :‬كان‬
                                        ‫دائرية‪.‬‬          ‫الودا ُع ودا ًعا لنفسه‪ /‬وكان ودا ًعا»‪ ،‬صد ٌع‬
    ‫هذه المرة يو ِّسع يماني ‪-‬وأكثر مما فعل في‬
   ‫أي تجرب ٍة سابقة‪ -‬من حدود الذات المفردة‪،‬‬           ‫تترجمه الهوة بين المضارع الذاهب للمستقبل‪،‬‬
‫ليصلها بالعالم وفق وع ٍي صوفي‪ ،‬بحيث يصبح‬               ‫للغد‪ ،‬كل غد‪ ،‬وبين الماضي التام‪ ،‬الواقف على‬

      ‫كل منهما حرفيًّا ُمض َّمنًا في الآخر‪ ،‬وبلغ ٍة‬      ‫الأطلال‪ ،‬والمؤ ِّكد على النهاية‪ .‬وثمة الصدع‬
  ‫تترجم هذا الوعي الصوفي أي ًضا إلى أسلوبية‬            ‫نفسه على مستوى البنية الشعرية أي ًضا‪ ،‬بين‬
                                                      ‫المفتتح‪ /‬الومضة‪ ،‬إحدى أكثر القصائد تقش ًفا‬
                                       ‫مهيمنة‪.‬‬
‫تبدو صورة «العالم المائل» وفق قراءة شمولية‬                ‫في حدود الحيز‪ ،‬والقصيدة النهائية‪ ،‬أطول‬
 ‫كسفينة ما تزال مؤخرتها تطفو فيما مقدمتها‬            ‫القصائد على الإطلاق وأشدها استجاب ًة لسيولة‬
‫بالفعل تحت الماء‪ .‬وجود عالق‪ ،‬لا يمكن وصفه‬
‫بالناجي ولا وسمه بالغارق‪ .‬الصعود والهبوط‪،‬‬              ‫التداعي الحر‪ .‬وأخي ًرا‪ ،‬ثمة الصدع بين الذات‬
‫فعلان مهيمنان هنا‪ ،‬بين تسلّق جبل مع حبيبة‬                ‫المتكلمة في النص الأول والضمير الثالث في‬
‫‪-‬مغادرة الأرض نحو الأعالي في تجسي ٍد شديد‬                     ‫النهاية كأن الذات خرجت من المشهد‪.‬‬

  ‫الرمزية لفكرة الحب نفسها‪ -‬وهبوط مقبرة‪،‬‬              ‫اللغة نفسها تتحرك وفق وعي خاص بتش ّكلها‬
  ‫نحو ما تحت الأرض‪ ،‬كذات منفردة إجبار ًّيا‪،‬‬               ‫من الميلاد للأبدية‪ .‬تبدأ اللغ ُة من تقمصات‬
                                                           ‫عميقة للغة قصة الخلق التوراتية المتصلة‬
                ‫حيث لا شراكة في لحظة الموت‪.‬‬             ‫بالتكوين‪« :‬ثم أتى خطأ الكلمات‪ /‬وتراكمت‬
 ‫قصيدة يماني ذاهب ٌة هذه المرة لن ٍص قيامي‪ ،‬إذ‬
‫مع الثلث الأخير من الكتاب‬                              ‫كل طبقات الجلد بعضها على بعض‪ /‬ثم جاء‬
                                                                      ‫الكذب وراء الكلمات‪ /‬وجاءت‬
   ‫تميل القصائد بجلاء‪ ،‬مع‬                                               ‫الدماء وجاء الموت‪ /‬كانت لا‬
      ‫العالم المائل‪ ،‬وتأر ُجح‬                                        ‫تزال هناك نهارات‪ /‬كان العالم‬
                                                                     ‫حسنًا»‪ .‬جميعنا نعرف مركزية‬
   ‫القدمين‪ ،‬لاهث ًة كسيل في‬                                            ‫«الكلمة» في قصة الخلق‪« :‬في‬
     ‫منحدر باتجاه الحفرة‪،‬‬                                               ‫البدء كان الكلمة»‪ ،‬هنا قصة‬
                                                                       ‫خل ٍق موازية تتبنى الأسلوبية‬
 ‫لتغيب في الثقب الذي يبتلع‬                                            ‫ذاتها لكن في الاتجاه المعاكس‪،‬‬
                  ‫ك َّل شيء‪.‬‬                                            ‫انطلا ًقا من «كذب الكلمات»‪.‬‬
                                                                                   ‫شيئًا فشيئًا تبدل‬
‫الوداع في مثلث كبير‬                                                                 ‫اللغة من جلدها‪،‬‬
                                                                                     ‫تخف حمولات‬
       ‫يكاد الجسد في هذه‬                                                         ‫الاستناد لنصوص‬
       ‫المجموعة ُيختزل في‬                                                           ‫الإنسانية‪ ،‬حتى‬
   ‫القدمين‪ .‬لا يكف يماني‬                                                           ‫تصفو في النهاية‬
    ‫عن استخدام أفعال من‬                                                               ‫من التناصات‬
‫قبيل‪ :‬أمشي‪ ،‬أتقدم‪ ،‬أخطو‪،‬‬

                                                     ‫أحمد يمانى‬
   18   19   20   21   22   23   24   25   26   27   28