Page 51 - ميريت الثقافية رقم (28)- أبريل 2021
P. 51

‫‪49‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

‫مراد وافتتانه بجوليا‪ ،‬هذه الأحاسيس التي انقلبت‪،‬‬             ‫(مراد) ينظر إلى الآخر (جوليا) بوصفه مستعم ًرا‬
‫مع توالي الأيام‪ ،‬إلى حب وألفة‪ ،‬وتعكس أفعال مراد‬                 ‫جدي ًدا يعيد إنتاج الاستعمار القديم في أشكال‬
                                                                               ‫جديدة‪ ،‬ودوننا هذه الشهادة‪:‬‬
    ‫مدى انبهاره بجوليا‪ ،‬ولعل ما يؤكد ذلك َت َن ُّكره‬           ‫«ترى فيما تختلف جوليا عن بانيها‪ ،‬الذي كان‬
                                ‫لحبيبته (خولة)‪:‬‬
                                                           ‫يصيد الآدميين ببندقيته من حصنه الحصين‪ ..‬فقط‬
        ‫«خولة‪ ..‬أتغفرين لي ما فعلت بقلبك الحزين‬              ‫ليثري مروياتهم الكبرى عن الشرق‪ ،‬جوليا أي ًضا‬
    ‫يوم قررت الرحيل‪ ..‬تركتك تستهلكين الانتظار‬                 ‫وإن اختلفت الأساليب انسجا ًما مع روح العصر‬
   ‫والجنين في أحشائك يكبر يو ًما بعد يوم ويؤذن‬               ‫صادتني باسم استكناه الشرق‪ ،‬لست أدري عدد‬
   ‫بالفضيحة‪ ،‬اخترت الموت لأنني تغيبت عنك أكثر‬
                                                           ‫طرائدها قبلي‪ ..‬كل هذا لتثري حكاياتهم الكبرى عن‬
                               ‫مما ينبغي‪.)24(»..‬‬                                              ‫الشرق»(‪.)22‬‬
       ‫كما يتأكد افتتان مراد بجوليا من تعامله مع‬
    ‫(نضال) حبيبته أيام الدراسة الجامعية‪ ،‬والذي‬                  ‫على هذا الأساس تستحيل الأنا (بنهاشم)‪ ،‬في‬
  ‫يتسم بالقسوة والجفاء‪ ،‬و ُدوننا هذا الموقف الذي‬             ‫رأي (مراد)‪ ،‬إلى خادم للاستعمار الجديد وعميل‬
   ‫يعكس تقديس مراد لجوليا وتنكره لنضال التي‬
                                                                ‫يستدعي‪ ،‬في الذاكرة الجماعية‪ ،‬صورة لأفراد‬
            ‫تستحيل إلى حبيبة من الدرجة الثانية‪:‬‬             ‫خدموا الآخر الإمبريالي‪ ،‬بكل جد وتفان‪ ،‬في تدمير‬
  ‫«خفت أن تطل جوليا من الشرفة فينفضح أمري‪،‬‬
                                                                            ‫الوطن ماد ًّيا واستنزافه معنو ًّيا‪:‬‬
      ‫قبلتها (أي نضال) على عجل وامتطت صهوة‬                 ‫«حين قابلته أول الأمر بحجة أنني مريضة نفسية‪،‬‬
‫سيارتها‪ ،‬ومضت تخرج يدها من النافذة وتلوح لي‬                ‫تطلع إل َّي بنظرة ملغزة ثم ضحك بمكر‪ ،‬كأنه يعرف‬
                                                           ‫ما أريد‪ ،‬أو على الأقل‪ ،‬كأنه تعود على أن يستثمر في‬
                                    ‫مودعة»(‪.)25‬‬
     ‫غير أن أحاسيس مراد تجاه جوليا سرعان ما‬                                             ‫مل َّفات مرضاه»(‪.)23‬‬
      ‫تغيرت َلَّا اكتشف أن جوليا تسعى إلى تعليب‬                 ‫ويبدو أن هذا الفعل (الاِتجار في الأوجاع) قد‬
      ‫أوجاعه وخيباته في قالب روائي‪ ،‬هكذا انقلب‬              ‫سمح للآخر (جوليا) بتكوين صورة عن الإنسان‬
                                                             ‫الشرقي بما هو إنسان مادي وجشع ومصلحي‪،‬‬
         ‫اطمئنان مراد لجوليا إلى توجس وخوف‪:‬‬                 ‫وعن المجتمع الشرقي بما هو مجتمع غير أخلاقي‬
      ‫«جوليا صرت أخافك‪ ،‬أخاف أن ترسلي قلمك‬                   ‫ونفعي وغير إنساني‪ .‬فهذه الصورة تخضع‪ ،‬بعد‬
  ‫لتعبثي بجراحاتي‪ ،‬أخاف أن تكوني حز ًنا يفيض‬                   ‫ذلك‪ ،‬للإسقاط على باقي الذوات التي تنتمي إلى‬
                                                             ‫أقاليم الشرق‪ ،‬كما أن هذه الصورة قد تنتقل‪ ،‬عن‬
                              ‫عن الذكريات»(‪.)26‬‬            ‫طريق المستكشف (جوليا)‪ ،‬إلى جغرافيا الآخر حيث‬
‫وقد اكتشف مراد أن دور الحبيبة الذي لعبته جوليا‬             ‫تتحول إلى حقيقة ثابتة وصورة نمطية عن الشرق‪.‬‬

   ‫في حياته كان دو ًرا زائ ًفا لأنه يواري حقيقة ُم َّر ًة‬                          ‫‪ :3 -4‬الاِنتقا ُم الجنس ِّي‬
   ‫وهي أن جوليا ساردة تصبو إلى تحويل أوجاعه‬                    ‫ُت ْعلن (نوميديا) عن علاقة الجيل الثالث (مراد)‬
                                                           ‫بالآخر (جوليا) وما عرفته هذه العلاقة من إبدالات‬
      ‫وعذاباته إلى عمل سردي وشخصه إلى كائن‬                    ‫في البرنامج السردي‪ ،‬ويتضح أن ما يوجه هذه‬
    ‫ورقي‪ ،‬وأن هوية الباحثة بما هي صفة أجهرت‬                  ‫العلاقة هو رؤية الأنا (مراد) للآخر (جوليا) وما‬
                                                                ‫تشهده هذه الرؤية‪ ،‬بعد معايشة (جوليا)‪ ،‬من‬
      ‫بها جوليا أثناء تعارفهما الأول تستتر حقيقة‬           ‫متغيرات‪ .‬وتنكتب في هذا المساق رؤيتان عن الآخر‬
   ‫غائبة وهي أن جوليا روائية ترمي إلى بناء مجد‬             ‫(جوليا)؛ إحداهما انبهارية أطفلت حب الأنا (مراد)‬
    ‫أدبي وشهرة روائية‪ .‬كما أدرك مراد أن جوليا‬                 ‫للآخر (جوليا)‪ ،‬والأخرى عدوانية أطفلت انتقام‬
    ‫تعيد إنتاج الاستعمار القديم في أشكال جديدة‪،‬‬
    ‫فجوليا لا تعدو‪ ،‬في رأي مراد‪ ،‬أن تكون امتدا ًدا‬                           ‫الأنا (مراد) من الآخر (جوليا)‪.‬‬
‫للآخر الإمبريالي‪ .‬وعلى الرغم من صدمة الاكتشاف‬                 ‫إن الاحتكاك الأول للأنا بالآخر نتج عنه إعجاب‬
     ‫ومرارة الحقيقة إلا أن مراد تسامى‪ ،‬في الوهلة‬
  ‫الأولى‪ ،‬عن الانتقام من جوليا‪ ،‬بل قرر أن يواصل‬

                            ‫المسرحية كما يقول‪:‬‬
   46   47   48   49   50   51   52   53   54   55   56