Page 50 - ميريت الثقافية رقم (28)- أبريل 2021
P. 50

‫العـدد ‪28‬‬   ‫‪48‬‬

                                                                ‫أبريل ‪٢٠٢1‬‬

   ‫وامتدادته‪ .‬وتتجلى الأخرى في أن (نوميديا) ُت َنبِّ ُه‬          ‫من حكايات وأساطير عن هذه الحقبة‪ ،‬و ُتؤ ِّرخ هذه‬
     ‫إلى أن ثمة أبطا ًل قاوموا الآخر الإمبريالي دون‬              ‫الرواية‪ ،‬كذلك‪ ،‬للاِسم المغربي الجريح وما ت َج َّش َمه‬

  ‫أن تحتفي المدونة التاريخية بالفعل النضالي لهذه‬                    ‫هذا الاسم من عذابات مادية ومآسي نفسية في‬
‫الفئة‪ ،‬كما تنبه إلى التاريخ النضالي للبوادي المغربية‬                  ‫صراعه مع الآخر الإمبريالي من أجل الحرية‬
‫والذي يشغل حي ًزا هامشيًّا في المصنفات التاريخية‪.‬‬                                                   ‫والاستقلال‪:‬‬

                      ‫‪ :2 -4‬الاِ ِّت َجا ُر في الأوجاع‬            ‫«السفاح الرومي الذي يسكن القلعة الكبيرة‪ ..‬كان‬
      ‫تستعيد (نوميديا)‪ ،‬بكل فخر وإعجاب‪ ،‬تاريخ‬                     ‫يعكف كل يوم على اصطياد فرد من أفراد القرية‪،‬‬
  ‫(سيدي موسى) النضالي بما هو نموذج للإنسان‬
‫المغربي الذي قاوم الآخر الإمبريالي من أجل الحياة‬                    ‫كانت القرية تنزف‪ ،‬وسيدي موسى كان ينزف‬
 ‫والحرية‪ ،‬وبما هو‪ ،‬كذلك‪ ،‬نموذج للإنسان المغربي‬                     ‫أي ًضا‪ ،‬لأنه شيخ القبيلة‪ ،‬ولأن كل ما يحصل لها‬
‫الذي ينظر إلى الآخر الإمبريالي بوصفه عد ًّوا يسعى‬
   ‫إلى استنزاف الوطن وإبادة الإنسان‪ .‬وفي المقابل‬                                              ‫يقع على كاهله»(‪.)19‬‬
   ‫تنفتح (نوميديا)‪ ،‬بكل أسى وحسرة‪ ،‬على الجيل‬                          ‫يتضح أن الآخر الإمبريالي قد سعى‪ ،‬في هذه‬
   ‫الثاني الذي ينظر إلى الآخر بما هو مصدر للربح‬                 ‫المرحلة التاريخية‪ ،‬إلى إبادة الأنا‪ ،‬ويعكس هذا الفعل‬
   ‫والاغتناء‪ ،‬وإلى الأنا بما هي مشروع استثماري‪،‬‬                     ‫ما يعتمل في وجدان الآخر من حقد وعداء تجاه‬
      ‫لنتأمل هذا المقطع الذي ُي َع ِّري حقيقة الأنا في‬            ‫الأنا‪ ،‬كما يدحض هذا الفعل كل حجج الآخر الذي‬
                                                                    ‫علل الفعل الكولونيالي بأشياء جميلة مثل تعميم‬
                                ‫علاقتها بالآخر‪:‬‬                 ‫التمدن وإشاعة الأنوار‪ .‬ويحتفي هذا ال َك ْون الروائي‬
  ‫«وبنهاشم! أيعقل أن يخذلني؟ أيعقل أن يتاجر في‬                       ‫بالفعل النضالي للأنا وما قدمته هذه الذات من‬
  ‫مل ِّفي؟ أيعقل أن يكون الرجل الوحيد الذي ا ْئ َت َم ْن ُت ُه‬   ‫تضحيات من أجل البقاء وما خاضته من صراعات‬
 ‫على سري من طينة أولئك الذين يبيعون كل شيء‪،‬‬
                                                                                                 ‫من أجل الحياة‪:‬‬
         ‫كل شيء حتى مؤخراتهم لقاء المال؟»(‪.)21‬‬                       ‫«في يوم حزين‪ ،‬تحلق أهل القرية حول الشيخ‪،‬‬
     ‫ُي َع ِّري هذا المقطع السردي النسق القيم ِّي للأنا‬         ‫وهو يضم إلى صدره ابنه آخر ضمة‪ ..‬وبكت القرية‬
‫(بنهاشم) الذي يزدان بقيم دنيئة كالغدر والخيانة‪،‬‬                    ‫باستثنائهما‪ ،‬وجر بعد ذلك الأب ابنه نحو موته‪،‬‬
  ‫ويؤكد أن (بنهاشم) بما هو نموذج للجيل الثاني‬                       ‫واث ًقا أن موت فرد أهون من أن يسقط كل يوم‬
    ‫يسعى إلى الربح المادي بطرق غير شرعية‪ ،‬كما‬                    ‫واحد أو واحدة‪ ،‬هكذا مد سيدي موسى سكينا من‬
   ‫يعلن نظرة الأنا (بنهاشم) إلى الأنا (مراد) الذي‬               ‫وجع واستأصل فلذة كبده‪ ،‬لا لشيء‪ ..‬فقط لتستمر‬

       ‫تتحول أوجاعه وأسراره إلى بضاعة وطبيبه‬                                            ‫إغرم على قيد الحياة»(‪.)20‬‬
‫(بنهاشم) إلى تاجر والآخر (جوليا) إلى زبون ُيعلِّب‬               ‫إن هذه القصة التي تتفاعل نصيا مع قصة (إبراهيم‬
‫أوجاع الأنا (مراد) في قالب روائي‪ ،‬وتستدعي هذه‬
                                                                  ‫الخليل مع ابنه إسماعيل) ُت َق ِّدم صورة عن النسق‬
    ‫العملية‪ ،‬في الوعي الجمعي‪ ،‬صورة الاقتصاد في‬                   ‫القيمي للأنا‪ ،‬هذا النسق الذي يزدان بمبادئ نبيلة‬
‫البيئة الشرقية الذي ينبني على تصدير المواد الأولية‬               ‫مثل ال َغي ِر َّية والتضحية‪ ،‬وتقدم هذه القصة‪ ،‬كذلك‪،‬‬
                                                                  ‫نبذة عن الفعل النضالي في هذه المرحلة التاريخية‪،‬‬
   ‫إلى الآخر المُ َصنِّع الذي ُي َعلِّب تلك المواد في قوالب‬        ‫هذا الفعل الذي يؤمن بأن الفداء هو سبيل البقاء‬
     ‫فاتنة قبل أن يعيد تصديرها إلى أقاليم الشرق‬
                                                                              ‫والحياة وطريق الحرية والاستقلال‪.‬‬
‫بأثمان مضاعفة‪ ،‬هكذا تستحيل أوجاع الأنا (مراد)‬                   ‫والحاصل أن (نوميديا) تلفت الانتباه إلى فكرتين لا‬
   ‫إلى مادة أ َّولِيَّة تتحول‪ ،‬علي يد الآخر المصنع‪ ،‬إلى‬          ‫ُتعي ُرهما كتب التاريخ قيمة كبرى‪ ،‬وتتجلى إحداهما‬
                                  ‫منتوج روائي‪.‬‬
    ‫وتتباين نظرة الأنا إلى الآخر من جيل إلى آخر‪،‬‬                    ‫في النزيف الداخلي والأثر النفسي اللذين وشما‬
  ‫فإذا كان جيل (بنهاشم) ينظر إلى الآخر (جوليا)‬                      ‫الذاكرة المغربية بسبب الكولونيالية‪ ،‬فالمؤرخون‬
   ‫بوصفه مصد ًرا للربح والكسب المادي‪ ،‬فإن جيل‬                     ‫ينشغلون‪ ،‬عادة‪ ،‬بإحصاء النتائج المادية للاحتلال‬
                                                                ‫الأجنبي دون أن يهتموا بالنتائج النفسية لهذا الفعل‬
   45   46   47   48   49   50   51   52   53   54   55