Page 31 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 31
29 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
اتجا ًها واض ًحا في النقد الأندلسي ،كما يبدو من بالصداقة ،ثم امتدت إلى موضوعات أخرى لتشارك
خلال عنوانه دلي ًل في صناعة الكتابة وآدابها ،لاح ًقا الشعر وفنون أخرى «فتناولت موضوع (الاعتذار)
بالكتب التي حاولت تقعيد البيان وتخليصه من باعتباره يمثل صورة من صور العلاقة المتبادلة
الاضطراب مثل «الصناعتين» لأبي هلال العسكري بين الكتاب؛ فكان الكاتب يعتذر عن تلبية دعوة أو
المشاركة في إحدى المناسبات ذاك ًرا له الأسباب التي
وكتاب «صبح الأعشى في صناعة الإنشا»
للقلقشندي ،فخصص كتابه لدارسة قواعد الإبداع حالت دون تلبية دعوته ،وطوع الكتاب الرسالة
النثري وشرح فنونه كالخطابة والمقامة والرسائل الإخوانية لموضوعات أخرى كالوصايا والتشفع،
والتوقيعات ،وضروب صناعته كالسجع والبيان وكانت التهاني من الموضوعات التي شغلت مساحة
والإيجاز لأنه أصل الكلام الذي تولد عنه النظم(.)9 من الرسائل الإخوانية؛ فكثرت التهاني بالولاية
وغيرها من المناسبات الاجتماعية السارة كالزواج
يقول الكلاعي« :وإنما خصصت المنثور لأنه والإنجاب والعودة من السفر والإبلال من المرض،
الأصل الذي أمن العلماء ..ذهاب اسمه فأغفلوه، وعكست هذه الرسائل عمق العواطف المتبادلة بين
وضمن الفصحاء ..بقاء اسمه فأهملوه ،ولم الكتاب».
يحكموا قوانينه ،ولا حصروا أفانينه»( ،)10فهو يكاد كما نجد الرسائل الوعظية التي يكتبها بعض
الأتقياء إلى الخلفاء والسلاطين والأمراء ،يحثونهم
يلتقي مع علماء الأدب الذين قدموا كتابة الإنشاء على الصلاح والتقوى والرأفة بالرعية ،والاستعداد
لاشتماله على جواهر الألفاظ وغزارة المعاني ،ولأن
للموت ،وما أشبه ذلك.
الشعر محصور في وزن وقافية فتكون معانيه ثم الرسائل التعليمية التي ُخ ِّص َصت للحديث عن
تابعة لألفاظه ،والكلام المنثور تكون ألفاظه تابعة بعض الموضوعات الأدبية أو العلمية أو الدينية أو
لمعانيه( .)11فالنثر أسبق من الشعر وأفضل منه ،لأنه التاريخية ،وهو يدخل في باب التأليف ولا يدخل
كلام الله تعالى المنثور كما أشار إلى ذلك الكلاعي، في باب الترسل ،ومن أمثلته رسالة الغفران التي
ألفها المعري في عزلته ر ًّدا على رسالة وجهها إليه
وهو بذلك ينصب نفسه في موضع ال ّدفاع عن ابن القارح .وقد عرف هذا اللون بالرسائل الأدبية،
تجربة الكتابة النثرية ليضفي الفضل على نفسه
كممارس لها ،ومتمرس بفنونها ،لهذا يمضي دار ًسا وكان الجاحظ أمير بيانه من غير منازع «وتعد
فنون النثر القولية كالرسائل موض ًحا طرائقها رسالته التربيع والتدوير التي كتبها في هجاء أحمد
التعبيرية ،ومستد ًّل بشواهد من إنتاجه أو إنتاج
بن عبد الوهاب أشهر الرسائل الأدبية ،إذ فتحت
غيره(.)12 الباب لمن جاء بعده من الكتاب للإبداع في هذا اللون
ويعرض المؤلِف في كتابه لأهم القضايا النقدية التي
من الترسل في المشرق والمغرب والأندلس على
امتصتها ذاكرته وتمرس فيها ،وتتعلق بما يحتاج السواء .وهذا النوع من الرسائل أشبه ما يكون
إليه المترسل في إنشاء الرسالة من قوانين وآداب بالمقالات في العصر الحديث ،وفيها يتناول الكاتب
الصنعة ،لتوصيف قوانين الكتابة والنصائح التي موضو ًعا خا ًّصا أو عا ًّما تناو ًل أدبيًّا ،مبنيًّا على
على الكاتب اتباعها حتى لا يأفل ولا يخف أدبه، إثارة عواطف القارئ ومشاعره ،وهي لا توجه إلى
ولتتوشج مكانته بوشائج السمو والارتقاء ،منب ًها شخص بذاته ،وإنما يكتبها الكاتب ليقرأها الناس
في مستهله على أهمية الكتابة «مستد ًل بالقرآن جميعا»(.)7
الكريم ،حا ًّثا كل كاتب على تقدير هذه الصنعة ويعد أبو القاسم محمد بن عبد الغفور الكلاعي
من النقاد الأندلسيين الذين اهتموا بنقد النثر،
وصونها من العبث»(.)13 حيث ألف كتا ًبا كام ًل في هذا الجانب سماه «إحكام
وإذا كان الكلاعي قد اعتبر الشروط الخلقية صنعة الكلام» ،وهو الكتاب الوحيد الذي وصلنا
والدينية من أولى الأوليات التي ينبغي للكاتب إلى الآن من مؤلفاته( ،)8وهو بحق كتاب قيم يمثل
المترسل الاهتمام بها ،فإنه عد الكتابة صناعة
تستلزم المعرفة بشروطها الشكلية وفنونها
التعبيرية .وهكذا نجده يدعو الكاتب إلى استجادة