Page 27 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 27
25 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
تتجلى في الاستفادة من طاقاتها
حتى آخر نفس ممكن ،ويمكن
للشاعر أن يزيح سلطان إرث
اللغة عن رحابة تجربته بأن
يلقي القبض على ذلك الإرث،
ويزيحه بأدواته نفسها وليس
من خارجه .لهذا يد ّس الشاعر
بين طبقاته اللغوية وبصورة
متعمدة تراكيب لغوية تحيل إلى
تراث قديم ،ويتفنن في استثمار
ما في هذه التراكيب من قدرة
على القول الحديث في نسيج
قصيدة فوضوية تهد ُم وتبني
في الوقت نفسه .حتى وإن ورد
بعضها ليحقق مفارقة صارخة
أنسي الحاج جورج باتاي صلاح فايق قائمة بين عبارة قديمة («هيفاء،
مدبرة» مث ًل) وسيا ٍق لا علاقة
مادة لطيفة يستفيد مما تحمله داخلها .وفي موضع له بإرث هذه العبارة .فهذا ذكاء فن ّي يتمتع به
آخر نراه يرجع إلى لسان العرب في توضيح بعض الشاعر ويعرف من خلاله كيفية استثارة المتلقي
مراميه اللغوية ،ويرى القارىء أنه أمام لمعات وز ّجه في شبكة متنوعة من ردود الفعل على قراءة
شعره .وهو في النهاية ذكاء مبعثه طول التجربة
جمالية ساكنة في «القاموس» ،الذي كان أنسي
والمراس في تجربة الكتابة والثقافة لدى الشاعر.
الحاج نفسه يقول عنه إنه يقرأ فيه دائ ًما ومستم ًرا! ومن مواطن المفارقات التهكمية من الإرث نقرأ هذا
إذا كنا ذكرنا مفهوم «المفارقة» عدة مرات ،فلأنه
المقطع:
عنصر مميز وبارز في الكتابة الشعرية هنا .ولأنه «صا َح بي َو َه ٌج أن أ َت َر َّي َث ،فقد دا َرت َعي ُن المرأ ِة
مفهوم مرتبط في أحد وجوهه بممارسة سريالية ِفمو ِعنجأجًةَاخ ِنَينهِطاح،اولوي ّ،رضبلمميكاأِرأ ّانَّكل َد ُذرابلي ُعف َيارالرإُِبهليُيطدِةبُّايي َنفس َتي َعيِكصتِنَارباَلخِهمأر«أان ِةل ََعتين َتُنبِ َ»ه،
عبر اللغة والصورة الشعرية .وهي سريالية ليست َلح ُم ُه ما أو ي َتح ّر ُك، بما ِئ ِه فال َع ِجي ُن أص َل ال َمسأل ِة،
مقصودة بذاتها .أي أننا لا يمكن ولا يجوز إدراج ب ِعظام ِه».
النصوص في خانة السريالية ،فذلك أمر لم يعد نرى المفارقة هنا تجتهد في السخرية من خلال
وار ًدا حتى في الأدبيات النقدية المعاصرة .ولكن
السريالية كطاقة فنية غنية لا يمكن أن تك ّف عن
التأثير والحضور في مدونات الشعر والسرد أي ًضا. مقارنة المتلقي بين الواقعة التي أمامه ،وبين تلك
وهذا يتطلب مرتك ًزا ثقافيًّا معق ًدا يس ّهل على المبدع
الاستفادة من سحر السريالية دون أن يغرق فيها الإحالة المفاجئة على كتاب العين للفراهيدي! لا
في عملية نكوص إلى الوراء .ثم إن طبيعة الصور أعتقد أن القارىء سوف يم ّر على مثل هذه اللحظة
الفنية في القصيدة تحاذي الفعل السريالي في العمق إلا ويبتسم وربما يطلق ضحكة ساخرة ،دلي ًل على
أن الشاعر حقق ما يريد من خلق مثل هذه المفارقة .حين تكون صورة غرائبية ومغرقة في التناقض.
ولا يمكن لهذه الميزة أن تكون سلسة القياد إلا خاصة وأننا مرة ثانية في هذا النص أمام شبق
لمن يملك الكيفية الخاصة في تسيير أمور كتابته بودليري رجيم تجاه الجسد العابر ،وفي المدينة.
إن الشاعر باختصار يعرف كيف يجعل إرث اللغة والتدقيق في فوضاها.