Page 23 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 23

‫‪21‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

      ‫العنف الذي كان مسيط ًرا على شخصية حسين‬             ‫«لا أحلم أن يتوقف الناس عن متعة القتل‪ .‬إن هذا‬
   ‫ح ّوله إلى انتقام ض ّد جنود الاحتلال‪ ،‬فكان يحرق‬        ‫مستحيل‪ .‬كل حلمي أن يظل القاتل قات ًل والقتيل‬
  ‫سياراتهم‪ ،‬وهو ما أصابهم بالفزع‪ .‬ومن ثم يرسم‬           ‫قتي ًل‪ ،‬دون أن تختلط عليَّ اليد التي غرست السكين‬

 ‫الراوي مسار التحولات في شخصية بطله من فدائي‬                           ‫والقلب الذي تلقى الطعنات‪ ..‬إلخ»‪.‬‬
                                                             ‫ثم تأتي المفاجأة بالخطاب المدمج بالنص وهو‬
     ‫وطني ُيقاوم الإنجليز‪ ،‬إلى قاتل يصبح ‪-‬عنده‪-‬‬       ‫يكشف فحوى ال ّرواية نفسها التي تأتي وكأنها رغبة‬
‫مشهد «خروج الروح عنوة أل ّذ من ال ُقبلات»‪ .‬كما يجد‬       ‫من الكاتب في تصحيح التاريخ وف ًقا لإيديولوجيته‬
                                                            ‫المعارضة للشخصية‪ ،‬والمتسربة في النص بد ًءا‬
    ‫مبررات لما يفعله ففي نظره «ال ّساسة مخادعون»‬          ‫من العنوان الفرعي‪ ،‬أو ذلك الخطاب الذي أرسله‬
‫(ص‪ ،)188‬وأنهم «كلهم كاذبون محتالون ويتاجرون‬            ‫الدكتور للمؤلف يفيده فيه بعثوره على الدفتر المجلد‬
                                                         ‫والمعنون بكلمة «حياتي»‪ .‬وقد كانت الأوراق وفق‬
 ‫بكل شيء الدين والأخلاق ومصلحة الوطن»‪( .‬ص‪،‬‬               ‫شهادة الدكتور «حكايات عن عمليات اغتيال وقتل‬
                                                           ‫ومتفجرات ومحاكمات فلسفية لبعض المشاهير‬
                                          ‫‪)156‬‬                ‫وتوصيف لكل مستهدف بكلمة خائن»‪ ،‬ومن‬
                                                           ‫ثم يجزم بأن هذه المذكرات تخ ُّص «قات ًل سر ًّيا‬
 ‫وهذه الصورة بكل حمولاتها السلبية‪ ،‬تكون نقي ًضا‬         ‫محتر ًفا»‪ ،‬بل ويع ّرج إلى قصة إحسان عبد القدوس‬
‫لرؤية بطل إحسان (إبراهيم حمدي) فكما يقول‪« :‬إن‬           ‫قائ ًل‪ :‬وربما هو الذي أوحي للكاتب الراحل إحسان‬
                                                          ‫عبد القدوس بكتابة روايته الشهيرة»‪ .‬من الفصل‬
   ‫رجال البوليس شرفاء‪ ،‬إنهم أداة لتنفيذ سياسة لا‬          ‫الأول المعنون بـ»القاهرة» والراوي الغائب يضع‬
                                                          ‫بطله في دائرة إجرامية‪ ،‬حيث ينسب الأب توفيق‬
 ‫ذنب لهم فيها ولكن هؤلاء العملاء الخونة إن عليهم‬          ‫بك أحمد إلى الخلية التي قادها إبراهيم الورداني‪،‬‬
                                                       ‫الذي قام باغتيال بطرس باشا لينفذ فيه حكم إعدام‬
  ‫الذنب كله»‪( .‬في بيتنا رجل‪ :‬ص‪ ،)22‬بل يؤكد على‬            ‫الشعب‪ .‬ال ُّصورة المثالية التي رسمها إحسان عبد‬
                                                      ‫القدوس لحسين توفيق عبر شخصية إبراهيم حمدي‬
 ‫نبل قضيته‪ ،‬فعندما طارده البوليس المصري بعد أن‬        ‫الروائيّة‪ ،‬يسعى مصطفى عبيد إلى تقديمها في إطارها‬
                                                          ‫التاريخي أو السيري وف ًقا لما وصل إلى يديه من‬
   ‫ف ّجر المعسكر‪ ،‬أخذ يصيح ابتعدوا عني‪ ..‬لقد فعلت‬     ‫مذ ّكرات‪ ،‬فينحاز لكونه إرهابيًّا‪ ،‬ومن ث ّم يدلّل على هذا‬
  ‫كل هذا من أجلكم من أجل مصر‪ ،‬لقد أثرت الرعب‬           ‫الانحياز فيجعله يميل إلى ال ُعزلة وكثرة الحزن‪ ،‬وهو‬
                                                        ‫ما انتهى به إلى العنف والتحريض عليه منذ نشأته‪،‬‬
‫في قلوب أعدائكم‪ ..‬سيرحلون عنكم‪ ..‬ستثورون كلكم‬         ‫فيكفي موقفه مع أخيه سعيد وتحريضه له بأ ْن ُيلقي‬
                                                        ‫بالقط من ال ُّسور‪ ،‬والأخ خائف‪ ،‬فيصيح فيه‪« :‬اقتل‬
   ‫مثلي لتطردوهم‪( »..‬في بيتنا رجل‪ :‬ص‪ )386‬ومرة‬          ‫خوفك»‪ ،‬بل لا يكتفي بالتحريض وإنما ُيق ِّدم مسوغ‬
                                                        ‫القتل‪« :‬ليس لها فائدة‪ .‬لو قتلتها سيكون لها فائدة‬
 ‫أخرى بعدما اشت ّد الخناق عليه وكانت أمامه فرصة‬
 ‫قتل الضابط يقول‪« :‬إنه لا يستطيع أن يقتل مصر ًّيا‬                    ‫لأنها ستعلمك ألا تخاف»‪( .‬ص‪)22‬‬
 ‫لا ذنب له‪ ،‬إنهم يؤدون ما يخيّل إليهم أنه واجب‪.»..‬‬       ‫ومرة ثانية يكشف عن حالة التزمت التي يعيشها‪،‬‬
                                                        ‫وهي حالة ُمب ّكرة ج ًّدا حيث يرفض أن ُيكلّم البنات‪،‬‬
     ‫تعامل محفوظ وإحسان عبد القدوس وسليمان‬             ‫ويزداد الأمر سو ًءا في رفضه تقبيل إحدى صديقات‬
                                                       ‫أمه‪ ،‬وعندما احتضنته «غضب بشدة وجرى مسر ًعا‬
 ‫فياض مع شخصياتهم الواقعية على أنها شخصيات‬             ‫وهو يمسح خديه أمام السيدة وكأنها تحرشت به»‪.‬‬

     ‫روائية‪ ،‬فمنحوها أبعا ًدا جديدة مفارقة لواقعها‪.‬‬
    ‫وهو نفس ما فعله دوستويفسكي مع شخصيته‬

       ‫التي التقاها في السجن‪ ،‬فصاغ رواية متكاملة‬

    ‫عن هذه الشخصية بإضافة الكثير من العناصر‪،‬‬

   ‫وأي ًضا بتغيير بعض ملامحها وإن كان قد احتفظ‬
      ‫بروحها الأصليّة‪ .‬أما مصطفى عبيد فلم يضف‬

   ‫للشخصية الواقعية أي ُبعد جديد‪ ،‬بل على العكس‬
‫نقلها من الواقع كما هي ومن ث ّم نحت الرواية منحى‬
 ‫الرواية التسجيلية التاريخية التي تتابع تط ّور البطل‬

     ‫ومسيرته‪ ،‬في ظل سياق سياسي محتدم َو َث ْورة‬
                    ‫غضب تعترم نفوس الوطنيين‬
   18   19   20   21   22   23   24   25   26   27   28