Page 125 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 125

‫نون النسوة ‪1 2 3‬‬

                              ‫سعاد سليمان‬

                                               ‫(قصة)‬

                  ‫غرفة بحجم سرير‬

 ‫تسكن أشياؤنا‪ :‬الحلل‪ ،‬وابوار الجاز‪ ،‬صرر خزين‬          ‫عند بيت أم فاروق‪ ،‬لم تطرح الشجرة «برقوق»‪،‬‬
  ‫البيت‪ ،‬سمن‪ ،‬ملوخية ناشفة‪ ،‬فريك‪ ،‬بلاص المش‪،‬‬
 ‫ينضم إليهم لي ًل جردل أبي وأكواب زجاجية‪ ،‬يبيع‬             ‫كما تقول الأغنية الشعبية التي يغنيها إخوات‬
  ‫فيها نها ًرا عصير ليمون‪ ،‬يأتي بالليمون يعصره‪،‬‬                                      ‫فاروق العريس‪.‬‬
‫يضيف إليه قطع الثلج‪ ،‬زائد مسحوق أصفر‪ ،‬بقدرلا‬
  ‫يخطئه‪ ،‬يجعله أكثر اخضرا ًرا‪ ،‬يغسل أكوابه التي‬        ‫أتعثر في خطواتي‪ ،‬طفلة لم أكمل أربع سنوات‪ ،‬لا‬
                                                      ‫أفهم معظم الكلمات‪ ،‬سربتني أمي ألعب مع أطفال‬
       ‫يضعها في وعاء يحمله‪ ،‬يعود به فار ًغا لي ًل‪.‬‬
    ‫يقع البيت على ناصية شارع طويل ج ًّدا وضيق‬                  ‫الحارة‪ ،‬هى التي ترفض خروجي دائ ًما‪.‬‬
    ‫ج ًّدا‪ ،‬لا يتعدى عرضه نصف المتر‪ ،‬يتراص على‬             ‫أغلقت باب الحجرة ورائي‪ ،‬وأبي يبدأ في خلع‬
    ‫امتداده خمسة بيوت‪ ،‬شما ًل ويمينًا‪ ،‬تفوح منها‬       ‫ملابسه‪ ،‬فرحة بأكوام الرمل التي نقفز فوقها‪ ،‬لم‬
     ‫رائحة «زنخة» (عفنة)‪ ،‬كأنما بنيت مع الطوب‬           ‫أعرف متي اكتشف «العيال» أنني الوحيدة بينهم‬
  ‫والحجارة‪ ،‬على يمين الداخل حجرة أكبر لصاحب‬               ‫التي تلعب‪ ،‬ونصفها الأسفل عا ِر‪ ،‬سألوني عن‬
  ‫البيت وزوجته حورية‪ ،‬لا يذكرها أبي إلا مرتبطة‬         ‫«لباسي» لم أفهم‪ ،‬تركوا تشكيل الرمل ولعبوا ف َّي‪،‬‬
    ‫بالعفونة‪ ،‬يشمئز منها‪ ،‬يعتقد أن ما تأكله دو ًدا‪،‬‬       ‫عدت لأمي مكبوسة الفتحات‪ ،‬ضربتني بشدة!‬
    ‫لا تكف عن أكل الجندوفلي والجمبري‪ ،‬تشتريه‬                ‫تبولت على نفسي‪ ،‬لم أفهم سر غضبها‪ ،‬لماذا‬
     ‫بكميات كبيرة‪ ،‬تضعه في «طشت»‪ ،‬لا تشبع إلا‬        ‫تتركني بغير لباس‪ ،‬لازمني التبول اللاإرادي‪ ،‬حتى‬
                                                     ‫كواني أبي بطرف سكين مشتعل‪ ،‬كرهت أم فاروق‬
                   ‫بانتهائه‪ ،‬أو نومها على الطشت‪.‬‬           ‫وشجرتها التي تذكرني بألم في كل أعضائي‪.‬‬
 ‫تغلق أمي باب حجرتنا‪ ،‬اتقاء لزفارة مشبعة بعفن‪،‬‬           ‫لآخر يوم في عمري‪ ،‬لن أتذكر رحلتي وأمي من‬
                                                        ‫النجع‪ ،‬إلى الأسكندرية‪ ،‬كأن عفريتًا انتزعني من‬
    ‫فتخنقها حرارة الجو‪ ،‬حيث حجرتنا بلا شباك‪،‬‬          ‫هناك‪ ،‬إلى تلك الحجرة الصغيرة على شمال الداخل‬
     ‫المنفذ الوحيد هو الباب‪ ،‬ينفتح فتهاجمنا عفونة‬        ‫من بيت عتيق‪ ،‬غرفة لا تتسع إلا لسرير نحاس‬
  ‫سمك حورية‪ ،‬ينغلق فيخنقنا الحر‪ ،‬تسغترب أمي‬               ‫بأعمدة‪ ،‬ألعب في عرائسها التي تزينها‪ ،‬أخلعها‬
      ‫تلك المودة بيني وبين هذه السكندرية النهمة‪،‬‬        ‫وأعيدها‪ ،‬لا نملك غيره «عفش»‪ ،‬نأكل فوقه‪ ،‬ننام‬
  ‫تناديني‪ ،‬فأذهب اليها‪ ،‬تفصص لي الجمبري فآكله‬        ‫ثلاثتنا‪ :‬أنا وأبي وأمي‪ ،‬نجلس عليه‪ ،‬كل حياتنا فوق‬

          ‫سعيدة‪ ،‬تشتمني أمي بأنني معفنة مثلها‪.‬‬                                           ‫هذا السرير‪.‬‬
      ‫أحب حورية‪ ،‬لا أراها معفنة أب ًدا‪ ،‬فهي بيضاء‬     ‫لا أستطيع الصعود أو النزول منه وحدي‪ ،‬بعد أن‬
    ‫سمينة‪ ،‬تضع كح ًل يأبى أن يستقر في مقلتيها‪،‬‬       ‫وضع ابي حجارة كبيرة ترفع أرجله‪ ،‬تحت السرير‬
   120   121   122   123   124   125   126   127   128   129   130