Page 127 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 127

‫نون النسوة ‪1 2 5‬‬                                    ‫غفلة مني‪ ،‬انمحت تما ًما تفاصيل رحلة الانتقال إلى‬
                                                    ‫بيت حارة حوش آدم‪ ،‬هكذا ينطقونه‪ ،‬غافلين جه ًل‬
     ‫ودولا ًبا‪ ،‬وابور جاز‪ ،‬صار من الأعيان‪ ،‬يذهب‬
     ‫لبلدته ويعود في يده زوجة‪ ،‬ربما ينجب عشرة‬          ‫أو سه ًوا‪ ،‬اللافتة الزرقاء أول الناصية‪ ،‬مكذبين‬
                                                   ‫بيظة الخول‪ ،‬المدعي بأنه حفيد السلطان «خشقدم»‪.‬‬
                 ‫أطفال في غرفة‪ ،‬لا تتسع لفردين‪.‬‬     ‫(هو الملك الظاهر أبي السعيد سيف الدين خشقدم‬
‫ينامون ِخلف خلاف‪ ،‬أو يفترشون الحصر في ليالي‬         ‫الناصري المؤيدي‪ ،‬حكم مصر في الفترة من ‪1460‬‬

                ‫الصيف أمام أبوابهم التي لا ُتغلق‪.‬‬                                      ‫إلى ‪1467‬م)‬
‫صرخات أم علي جميلة‪ ،‬معتادة‪ ،‬إما من ابنتها فيفي‬     ‫الأسطبل ذو الأحواض الرخامية البديعة‪ ،‬ي َبيّت فيها‬
                                                   ‫عم علي بضاعته من الخضروات‪ ،‬يغطيها بـ»خيش»‬
     ‫التي يلوك كل الجيران سيرتها‪ ،‬أو من ساكني‬
‫حوشها‪ ،‬الذين لا يدفعون الأجرة إلا بخلع الضرس‪.‬‬            ‫مبلول‪ ،‬قبته الدائراية يحيط بها شبابيك يلون‬
                                                       ‫زجاجها نور الشمس‪ ،‬نتزحلق على بهجة أرضه‬
    ‫تقول‪ :‬الجرابيع مستخسرين يدفعوا الأجرة‪ ،‬أنا‬      ‫الملساء‪ ،‬كيف جاء هذا الأسطبل الفخم‪ ،‬الذي يقول‬
     ‫عارفة يا ولاد الكلب انكم بتبنوا بيوت ِملك في‬   ‫بيظة إنه كان مخص ًصا لخيول السلطان‪ ،‬إلى بؤس‬
                                                     ‫الحارة والشوراع المحيطة‪ ،‬على مدى خمسة كيلو‬
   ‫الدخيلة‪ ،‬هو أنا نايمة على وداني‪ ،‬نلمكم مقشفين‬
    ‫وحافيين‪ ،‬وبعدين تبقوا أصحاب ملك والروس‬                    ‫متر مربع‪ ،‬هى كل ما أعرفه من حولي؟!‬
                      ‫تتساوى‪ ،‬يلعن أبو ده زمن‪.‬‬          ‫الخريطة‪ ،‬كما يشرحها بيظة‪ ،‬أن حوش أم علي‬
    ‫في مواجهة الحوش تما ًما‪ ،‬بيتنا العائش في عقلي‬   ‫جميلة الواسع‪ ،‬كان بستا ًنا نادرالأشجار للسلطان‪،‬‬

  ‫رغم مرور خمسين عا ًما على انهياره فوق رؤوس‬               ‫لم يبق منه سوى مدخل بعامودين‪ ،‬تهدمت‬
    ‫ساكنيه‪ ،‬يعتقد بيظة أنه وكل البيوت على شماله‬      ‫تيجانهما واسود بياض رخامهما‪ ،‬يحملان حائ ًطا‬
  ‫و يمينه‪ ،‬وعم ًقا حتى شارع السنوسي‪ ،‬هو قصر‬
     ‫السلطان الصيفي‪ ،‬يحلف بكل الأيمانات للست‬                       ‫مثلثًا بهتت ألوان نباتاته المنقوشة‪.‬‬
                                                      ‫حجرتان بجوار العامودين‪ ،‬تطلان على الشارع‪،‬‬
 ‫غنية‪ ،‬أن الخريطة التي كان يملكها‪ ،‬دليل على ذلك‪،‬‬       ‫تسكنهما وريثة السلطان أم علي جميلة‪ ،‬تحولت‬
  ‫سرقها ورثة السلطان الكثيرون‪« ،‬فطلع من المولد‬       ‫جدرانهما إلى دفتر تسجيل ديون ساكني عشرات‬
                                                      ‫الغرف الداخلية‪ ،‬المصنوعة من الصفيح‪ ،‬سقوفها‬
                                    ‫بلا حمص»‪.‬‬         ‫من جريد النخيل‪ ،‬لا تحميهم من هطول الأمطار‬
‫يهمس بيظة للست «غنية» أنه يخاف عم علي‪ ،‬قريبه‬          ‫شتاء‪ ،‬يغطونها بمشمع بلاستيك سميك‪ ،‬يثبتونه‬
                                                        ‫بحجارة حتى لا يطير‪ ،‬يضعون طشوت‪ ،‬حلل‪،‬‬
                 ‫الذي يبكي حين يضربه بقسوة‪.‬‬            ‫صحون‪ ،‬تتلقى ما يخر من السقوف‪ ،‬سرائرهم‬
     ‫صار ًخا‪ :‬مرغت راسنا في الطين‪ ،‬واحنا أسياد‬
                                                         ‫متنقلة‪ ،‬وفقا للبعد عن مصدر نزول الأمطار‪،‬‬
                                         ‫الناس‪.‬‬            ‫الحمام بلدي مشترك‪ ،‬لذا فهى مناسبة ج ًّدا‬
  ‫يسخر بيظة من بائع الجرجير سيد الناس‪ ،‬يتفنن‬       ‫لصعايدة فقراء‪ ،‬رخص أجرتها مغري‪ ،‬الأهم وجود‬
                                                     ‫أقارب أو بلديات‪ ،‬الالتحام بينهم ضرورة تحتمها‬
      ‫في الانتقام من أم علي‪ ،‬عمته الوحيدة على قيد‬  ‫غربتهم‪ ،‬فيصبح الحوش‪ ،‬والبيوت المجاورة‪ ،‬الحارة‬
    ‫الحياة‪ ،‬مهووس بيظة بالتشنيع على فريدة ابنة‬        ‫والشوراع المحيطة‪ ،‬تسكنها عائلة واحدة‪ ،‬تتمدد‬
     ‫أم علي‪ ،‬يحرض الجيران عليها‪ ،‬بسبب تعليقها‬        ‫فتصبح بلدة واحدة‪ ،‬مخصصة لهم‪ ،‬إلا قلي ًل من‬
‫ستارة تحجب عنهم تفاصيلها‪ ،‬يردح باستخدام كل‬               ‫الغرباء‪ ،‬بمن فيهم صاحبة أو صاحب المكان‪.‬‬
‫الإشارات البذيئة‪ ،‬بأصابعه وذراعه‪ ،‬أن فيفي «اسم‬       ‫يسكنون فرادى‪ ،‬ربما ينامون على البلاط‪ ،‬السعيد‬
 ‫الدلع» تخفي الرجال الذين تمارس معهم الفاحشة‪.‬‬      ‫من يحصل على حصيرة ومخدة‪ ،‬أما الغني فهو من‬
   ‫يردد مثل غريب‪ :‬باعت العمارة واشترت ستارة‬         ‫ينام على مرتبة ويتغطى بلحاف‪ ،‬فإذا امتلك سري ًرا‬

                 ‫قالوا دي هتيكة بصريح العبارة‪.‬‬

                 ‫بيظة‬

     ‫الوحيد الذي ينطق اسم الحارة صحي ًحا‪ ،‬يردد‬
‫بتعا ٍل وغطرسة‪ :‬اسمه «خشقدم» يا حوش يا لمامة‪،‬‬
   122   123   124   125   126   127   128   129   130   131   132