Page 126 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 126

‫العـدد ‪27‬‬  ‫‪124‬‬

                                                       ‫مارس ‪٢٠٢1‬‬

                                      ‫لتأخذني‪.‬‬               ‫يسيح حولهما‪ ،‬موردة الخدود‪ ،‬عكس زوجها‬
 ‫ظهرت زوبة‪ ،‬شابة سكندرية مطلقة‪ ،‬عفية‪ ،‬قمحية‬              ‫ذي الأصول الصعيدية محمد مهران‪ ،‬رغم حياته‬

   ‫اللون‪ ،‬مبهورة بجمال أمي التي تهديها «فايش»‬               ‫الطويلة في هذا البلد «قبلة الصعايدة»‪ ،‬لا يلبس‬
    ‫وارد الصعيد‪ ،‬تدب بيدها فوق صدرها العامر‪.‬‬             ‫إلا الجلباب‪ ،‬وفي الشتاء يضع فوقه بالطو‪ ،‬طويل‪،‬‬
     ‫تقول لأمي‪ :‬يالهوي انتي صعيدية ازاي؟! هو‬           ‫أسمر غامق‪ ،‬أعور‪ ،‬يتخذ جز ًءا من البيت دكا ًنا‪ ،‬يبيع‬
                                                       ‫فيه حلوى حمراء في برطمانات زجاج كبيرة‪ ،‬دخان‬
                        ‫الصعيد فيه الحلاوة دي‪.‬‬           ‫وصابون‪ ،‬معظم أرففه فارغة‪ ،‬يتعجب أبي أن هذا‬
    ‫تحل «قمطة» أمي‪ :‬وكمان شعرك بني وسايح‪،‬‬                ‫الرجل الأصيل‪ ،‬يتزوج تلك السكندرية التي تأكل‬

              ‫«أ ّحيه»‪ ،‬ده انتي شبه هدى سلطان‪.‬‬             ‫أكله‪ ،‬فتصير بقرة ذات ضرع ومؤخرة ضخمة‪،‬‬
   ‫تبتسم أمي‪ ،‬لا تعرف من هي هدى سلطان التي‬                   ‫وهو»مسلول» (ضعيف البنية)‪ .‬لديهما ابنتان‬

                ‫تشبهها‪ ،‬لكنها بالتأكيد حلوة ج ًّدا‪.‬‬     ‫روحية وحربية‪ ،‬تزوجتا من أقاربنا‪ ،‬وأحفادها على‬
   ‫تكمل زوبة‪ :‬بس قولي لي إزاي واحدة حلوة زيك‬                                              ‫«وش» جواز‪.‬‬

                     ‫تتجوز الراجل الوحش ده؟!‬             ‫تتندر أمي على حورية‪ :‬ع تبقى جدة الجدة ولسه‬
     ‫عند الرضا عن أبي تجيب‪ :‬وحشة ِقلِّ ُته! (عدم‬                               ‫كل يوم ع «تتسخمط*»‪.‬‬

                                       ‫وجوده)‬           ‫تعرف ذلك من ماء الاستحمام‪ ،‬الذي تلقيه حورية‬
    ‫عند غضبها تقول‪ :‬قسمة ونصيب‪ ،‬حكم بلادنا‬             ‫كل صباح أمام باب البيت‪ ،‬فيتحول التراب إلى طين‬

                                         ‫واعر‪.‬‬                               ‫برائحة الصابون النابلسي‪.‬‬
‫تمصمص زوبة شفتيها‪ :‬والنبي جمالك ده خسارة‪.‬‬                ‫قبل أن نصعد الدور الثاني من البيت‪ ،‬على سلالم‬
 ‫هل شعر أبي بأن زوبة تقوي أمي وتع ّصيها عليه‪،‬‬            ‫«خشب»‪ ،‬توجد دورة مياه بين الحجرتين‪ ،‬تنزلق‬
                                                        ‫إذا لم تنتبه لقدمك من كثرة القذارة‪ ،‬التي يستنكف‬
  ‫لدرجة منعها من الاختلاط بها‪ ،‬والرحيل إلى بيت‬            ‫من إزلتها أي أحد‪ .‬إذا انزلقت‪ ،‬فإن جسدك يتجه‬
                                          ‫آخر؟‬          ‫مباشرة إلى عين «الكابانيه» البلدي‪ ،‬إذا كنت ضئيل‬
                                                       ‫الجسم مثلي‪ ،‬ربما غطست حتى نصفك داخل العين‪،‬‬
  ‫يؤمن أبي إيما ًنا لا يتزعزع بأنه لا يفسد المرأة إلا‬   ‫إن لم تجد من ينقذك‪ ،‬فإنك ستتنفس خراء على أقل‬
    ‫امرأة أخرى‪ ،‬والزن على الودان أ َم ّر من السحر‪.‬‬        ‫تقدير‪ ،‬ولأن سكان البيت بدوريه يستعملون هذا‬
   ‫ظلت أمي تعتز بكونها تشبه هدى سلطان‪ ،‬حتى‬
                                                                    ‫الحمام الوحيد‪ ،‬فإن عذابك لن يطول‪.‬‬
‫عندما زارها خرف الشيخوخة‪ ،‬لم تن َس أنها شبيهة‬            ‫أتسلق الدور الأعلى‪ ،‬حافية‪ ،‬بمشقة كبيرة‪ ،‬لأسعد‬
                 ‫هدى سلطان حتى آخر أنفاسها‪.‬‬              ‫باللعب مع خالد وأخته نفيسة‪ ،‬أتفرج من شباكهم‬
                                                          ‫على الشارع الذي تتقابل حيطانه‪ ،‬حيرة المارة إذا‬
‫اكتشفنا أن غرفتنا تملؤها الثعابين‪ ،‬جاء أبي برجل‬
 ‫يرتدي جلابية خضراء متسخة‪ ،‬وعمم كثيرة فوق‬                  ‫تصادف وجاءوا عكس بعضهم‪ ،‬يتنحى أحدهم‬
                                                             ‫ملتص ًقا بالحائط ليمر الآخر‪ ،‬كثي ًرا ما تنشب‬
     ‫بعضها‪ ،‬أكوا ًما من السبح على صدره‪ ،‬رفاعي‬
    ‫يصطاد الأفاعي والثعابين‪ ،‬التي بسببها هجرنا‬          ‫الخناقات بسبب من يجب عليه التنحي أو ًل‪ .‬نتلهى‬
    ‫غرفتنا‪ .‬جلسنا على السلم الخشبي يو ًما بطوله‪،‬‬          ‫في اللعب بحصان خالد الحلاوة الأحمر‪ ،‬يمطتيه‬
   ‫خرج بعد ساعات طويلة يتلفح بثعبان وزوجته‪،‬‬
                                                       ‫فارس يحمل سي ًفا‪ ،‬أتعمد كسر جزء منه‪ ،‬ألتهمه في‬
       ‫مضى‪ ،‬كانت هذه آخر ذكرياتي عن الغرفة‪.‬‬                 ‫غفلة‪ ،‬يكتشفون فعلتي‪ ،‬لكنهم لا يخفونه عني‪.‬‬
‫الخوف هنا دين الناس‪ ،‬يخافون الغموض‪ ،‬راحتهم‬                ‫رحل خالد ونفيسة إلى باكوس‪ ،‬تركاني لحورية‬

    ‫في معرفة ما تخفي القلوب‪ ،‬قد يقتلون بعضهم‬              ‫وزوجها‪ ،‬الذي أخاف من عينه العوراء‪ ،‬يكشر في‬
                    ‫للكشف عما تحمل صدورهم‪.‬‬                 ‫وجهي‪ ،‬يبدو أنني أعطله عن أمر أجهله‪ ،‬أختبئ‬
                                                              ‫خلف ظهر حورية العريض‪ ،‬حتى تأتي أمي‬
   ‫لا ولن‪ ،‬أتذكر متى وجدتني بين حيطانه‪ ،‬ناسه‪،‬‬
‫الشارع الذي يحتويه‪ ،‬أستخرج شخوصه من تحت‬

   ‫أنقاض أحلام مبتورة‪ ،‬تضللني ذاكرة عبثت بها‬
‫أحداث‪ ،‬ربما كانت مشينة أو مؤلمة‪ ،‬طمسها عقلي في‬
   121   122   123   124   125   126   127   128   129   130   131