Page 132 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 132

‫العـدد ‪27‬‬                           ‫‪130‬‬

                                     ‫مارس ‪٢٠٢1‬‬

 ‫أغلب الأفكار الجوهرية التي عمل‬            ‫المصرية أثناء فترة (الاتحاد‬   ‫التخلص من أصداء الفكر الشرقي‬
   ‫الإغريق على تطويرها‪ ،‬فحدثت‬               ‫الثاني) وتمثلت في قوانين‬          ‫القديم‪ ،‬ولم يستطيعوا فصل‬

 ‫لهم تلك النقلة النوعية المشهورة‪،‬‬         ‫أو نظام «ماعت» ‪ Maat‬غير‬         ‫الجانب الكيفي عن الجانب الكمي‬
      ‫والتي تتمثل في التركيز على‬         ‫المد َّون‪ ،‬والذي يؤسس العدالة‬   ‫في الفلسفة‪ ،‬وأعطوا (المادة) قدرة‬
                                          ‫والصدق‪ .‬وكل هذه البحوث‬
 ‫«التأسيس النظري المجرد للعلوم‬           ‫لم تكن سوى (أصول) نظرية‬             ‫ذاتية تحركها‪ .‬وهم في بحثهم‬
     ‫والفلسفة»‪ ،‬تلك التي ُيسميها‬       ‫قامت على أساس تجريبي‪ ،‬نجد‬          ‫عن محرك هذا الكون لم يتطلعوا‬
               ‫الكثيرون معجزة‪.‬‬           ‫فيها تطل ًعا لقيم باطنية تسمو‬
                                         ‫على المادة‪ ،‬والحاجات العملية‪،‬‬      ‫إلى (إله) بعينه‪ ،‬بل كان بحثهم‬
 ‫فلسف ٌة‪ ،‬أم َفن‪ ،‬أم ِدين؟‬               ‫بدرجات ودرجات‪ ،‬فض ًل عما‬         ‫عن الذي يديم هذا «التغير» الذي‬
                                     ‫كتب في أوائل القرن الماضي حول‬        ‫اكتشفه المصريون‪ ،‬فقال طاليس‬
 ‫«إن الفلسفة تقتضي انفصا ًل عن‬            ‫النصوص الهرمسية‪ ،‬والذي‬
    ‫الدين والفن»‪ :‬هذه هي الفكرة‬       ‫يحسم الجدل حولها؛ ويردها إلى‬           ‫إنه الماء‪ ،‬وقال انكسيمندريس‬
                                       ‫أصول مصرية‪ ،‬ليست يونانية‪،‬‬            ‫‪)547 -610( Anaximandre‬‬
 ‫التي أنكر الغربيون على أساسها‬        ‫أو إيرانية كما أشيع من قبل؛ مما‬
 ‫أن يكون للشرقيين فلسفة‪ .‬ولكن‬        ‫يدحض الزعم بخلو الفكر الشرقي‬              ‫إنه مادة غير محددة تدعى‬
                                                                            ‫(الأبيرون)‪ ،‬وقال انكسيمانس‬
    ‫إذا صحت هذه الفكرة؛ فكيف‬               ‫القديم من التفكير الفلسفي‬      ‫‪ )524 -588( Anaximene‬إنه‬
    ‫يمكننا النظر إلى «اكسينوفان»‬          ‫الخالص والمنظم‪ .‬ومن ناحية‬
  ‫‪ 570 -480( Xenophane‬ق‪.‬‬                ‫أخرى فإننا نتساءل‪ :‬هل خلت‬                                 ‫الهواء‪.‬‬
  ‫م)‪ ،‬و»بارمنيدس» ‪Parmenide‬‬            ‫الفلسفة اليونانية من الصياغات‬        ‫من ناحية أخرى؛ فمن البديهي‬
   ‫(‪-540‬؟) الذين كتبا فلسفتهم‬                                                ‫أن يسبق كل تفكير (نظري)‪،‬‬
                                            ‫العملية‪ ،‬وبرزت ‪-‬بوصفها‬          ‫(تفكير) عملي؛ كقاعدة وأساس‬
       ‫شع ًرا؟ وكيف سنحكم على‬            ‫معجزة‪ -‬كفكر نظري خالص‬
 ‫«محاورات أفلاطون» التي كتبت‬            ‫ومجرد؟ إن إجابة السؤال تبدأ‬           ‫تجريبي؛ وعلى هذا يكون من‬
                                       ‫بفحص الكلمة الإغريقية نفسها‬           ‫البديهي أي ًضا اعتبار الفلسفة‬
     ‫في سياق قصصي‪ ،‬وروائي‪،‬‬             ‫«الحكمة» ‪ ،Sophia‬والتي كانت‬          ‫الشرقية أسا ًسا وقاعدة للفكر‬
  ‫وفيها ما فيها من مجاز ودلالة؟‬       ‫تشير إلى المهارة والحذق م ًعا‪ ،‬لا‬
                                     ‫إلى التكهن والنظر والتجريد فقط‪،‬‬            ‫اليوناني؛ وهذه البداهة لن‬
      ‫لا بد من الأخذ في الحسبان‬         ‫أي أن مدلول الكلمة يوضح أن‬         ‫نفرضها‪ ،‬أو نلتقطها من الفراغ؛‬
   ‫أن العلاقة بين الفلسفة والدين‬      ‫البحث العملي والبحث النظري قد‬
  ‫هي علاقة (صراع) مثمر‪ ،‬وهذا‬           ‫تضافرا أي ًضا عند اليونان‪ ،‬وأن‬       ‫بل قد نجدها في مناقشة أعظم‬
                                       ‫الممارسات التطبيقية قد منحتهم‬     ‫ظاهرة في حياة الإنسان‪ ،‬ألا وهي‬
     ‫ما أكده «بول تيليتش» ‪Paul‬‬        ‫فيما بعد تلك القدرة على البرهان‬     ‫نشأة «المبادىء الخلقية»‪ ،‬وبداية‬
      ‫‪ )1965 -1886( Tillich‬في‬           ‫العقلي الفلسفي‪ ،‬فصارا التقدم‬
  ‫بحثه عن التجربة الدينية‪ ،‬إذ إن‬         ‫الفكري‪ ،‬والتقدم التكنولوجي‬          ‫«عصر الأخلاق»‪ ،‬ذلك العصر‬
     ‫الأخيرة عنده احتوت كل من‬                                                 ‫الذي يعود إلى حوالي ‪2000‬‬
  ‫التجربة الأخلاقية والجمالية ثم‬           ‫جنبًا إلى جنب‪ ،‬وهذا التقدم‬      ‫ق‪ .‬م‪ ،‬حيث ُكتبت أعظم البحوث‬
‫تجاوزتهما‪ ،‬مما يجعل من «الدين»‬            ‫كله لم يحدث في هذا العصر‬            ‫المعرفية في «الاجتماع»‪ ،‬تلك‬
 ‫جز ًءا أساسيًّا من «فلسفة القيم»‪.‬‬      ‫الكلاسيكي اليوناني إلا بفضل‬         ‫البحوث التي تضمنتها البردية‬
   ‫كما أن الدين ينطوي على نزعة‬        ‫الاتصال بالحضارات القديمة في‬            ‫التي تحمل حكمة «أمنموبي»‬
‫(مثالية)؛ هي الأصل في كل اتجاه‬         ‫الشرق‪ ،‬ذلك الشرق الذي ابتدع‬
                                                                                ‫‪ ،Amenemope‬والتي تم‬
                  ‫فلسفي مثالي‪.‬‬                                             ‫ترجمتها في العصور الغابرة إلى‬
                                                                            ‫العبرية‪ ،‬وبذيوعها في فلسطين‬
 ‫عصر التنوير الإغريقي‬
                                                                              ‫صارت مصد ًرا؛ اس ُتقي منه‬
  ‫لقد شهد القرن الرابع عشر قبل‬                                              ‫جز ًءا كام ًل في «كتاب الأمثال»‬
   ‫الميلاد اتسا ًعا للأفق الديني في‬                                        ‫في التوراة‪ ،‬ثم تبلورت وتعددت‬
                                                                             ‫الأبحاث الاجتماعية في الدولة‬
   127   128   129   130   131   132   133   134   135   136   137