Page 12 - ميريت الثقافية- عدد رقم 26 فبراير 2021
P. 12

‫العـدد ‪26‬‬    ‫‪10‬‬

                                                                      ‫فبراير ‪٢٠٢1‬‬

   ‫والخيالات الجمالية مع هموم الإنسان المعاصر‬                            ‫تومئ لي» جاء استجابة لدعوة (العالم) السابقة‪،‬‬
    ‫ومحاولاته المستمرة توسيط إشاراتها المحايدة‬                            ‫ولعل مردودها كان فحسب منبها لرفعت سلاّم‬
 ‫تارة‪ ،‬والممهورة بكسر المتوقع وتجاوز التابوهات‪،‬‬
    ‫لتكون مناط تفجير الدهشة الشعرية‪ ،‬والصدام‬                                           ‫نحو العناية بها والاشتغال عليه‪.‬‬
 ‫مع التقاليد‪ ،‬وإعلان الخروج عن الأنماط السائدة‪.‬‬                            ‫مهما يكن من أمر‪ ،‬فإن ديوان «إنها تومئ لي»‬
‫وليس غريبًا أن نلحظ في العنوان هذا الاحتفاء الذي‬                           ‫مكون من واحد وثمانين ن ًّصا شعر ًّيا جميعها‬
    ‫يكاد يكون بمثابة تعبير عن محب يخبرنا فيما‬                             ‫‪-‬عدا القصيدة الأخيرة من الديوان‪ -‬تنتمي إلى‬
  ‫يشبه الإعلان باصطفاء أنثوي للذات‪ ،‬هذا «النداء‬                         ‫بنية نصية قصيرة‪ ،‬تسيطر عليها تقنيات متنوعة‬
   ‫الأنثوي» ُيقدم منذ البداية بوصفه إشارة كبرى‬                            ‫في البناء التركيبي والتنوع الصياغي‪ ،‬وإن كانت‬
    ‫تمهد للعالم الشعري في الديوان بشكل أو آخر‪.‬‬                           ‫جميعها تنبع من منطق شعري على درجة ما من‬
   ‫ومن الطريف أن الجملة المركزية للعنوان ليست‬
  ‫عنوا ًنا لإحدى قصائد الديوان‪ ،‬وإنما َتر ُد في ثنايا‬                                                        ‫الاتساق‪.‬‬
     ‫قصيدته «أخيرة»‪ ،‬ورغم أنها ليست القصيدة‬
    ‫الأخيرة في الديوان من حيث الترتيب ‪-‬بل قبل‬                                          ‫‪-2-‬‬
  ‫الأخيرة‪ -‬إذ تتلوها قصيدة «مرأة الظل مرأة لي»‪،‬‬
‫لكنها تمثل نهاية القصائد القصيرة‪ ،‬بينما القصيدة‬                        ‫يحمل الديوان عنو ًنا لافتًا‪« :‬إنها تومئ لي»‪ ،‬مشي ًرا‬
  ‫المذكورة تعتمد تكنيك تجاور الومضات الشعرية‬                           ‫في إيجازه للعبة الإظهار والإخفاء الدلالي‪ ،‬فالعنوان‬
  ‫في تكوين بنيتها المتنوعة‪ .‬وتقدم قصيدة «أخيرة»‬
   ‫نفسها بوصفها التفا ًتا متأم ًل يحدد بصورة أو‬                           ‫يعمل بوصفه علامة دلالية وتداولية في آن‪ ،‬كما‬
                                                                          ‫أنه تعبير من جانب آخر عن فعل «التسمية» في‬
         ‫أخرى تلك التي تومئ له‪ ،‬تقول القصيدة‪:‬‬                         ‫كونه يحمل خصوصية «المسمى»‪ ،‬وتأكيد حضوره‬
                                   ‫َن ْظ َر ٌة َأ ِخي َرة‪:‬‬             ‫مختل ًفا عن غيره‪ ،‬وفي الوقت نفسه فبوصفه جملة‬
                                                                           ‫شعرية فإنه يدخل ضمن سياق تداولي خاص‬
                           ‫َشم ٌس َتح َت ِسي َشا ًيا‪،‬‬                  ‫للتلقي والتأويل‪ ،‬وفق قواعد التشفير وفك التشفير‬
                           ‫ِر َيا ٌح َت َنا ُم ِف ِف َرا ِشي‪،‬‬           ‫للمرسلة الشعرية‪ .‬إن جملة «إنها تومئ لي» تحمل‬
                          ‫َو َغ ْي َم ٌة َت ْح َت ال ِو َسا َدة‪،‬‬      ‫على عاتقها الإشارة إلى إحدى سمات اللغة الشعرية‬
                                                                          ‫في قيامها على الاستثمار الجمالي لجدلية الخفاء‬
                              ‫َنا ٌر َت ْص َع ُد ال ِج َدار‪،‬‬              ‫والتجلي‪ ،‬نرى ذلك في احتفاء الجملة بتأكيد فعل‬
                        ‫َأ ْش َيا ٌء َص ِغي َر ٌة ُتو ِم ُئ ِل‪،‬‬            ‫الإيماء وحضور مفعول الفعل والمنفعل به‪ ،‬بل‬
                         ‫َو ُع ْل َب ُة ال َّس َجا ِئ ِر َخا ِو َية‪.‬‬       ‫حصره على ذات المتكلم بنوع من الخصوصية‬
                                                                      ‫والاختصاص «لي»‪ ،‬ورغم ذلك الإظهار تلعب حركة‬
                                    ‫َف َأم ِضي(‪.)6‬‬                          ‫الإخفاء عبر حركة ضمير المؤنث الغائب الذي‬
    ‫إن تلك النظرة الأخيرة تقدم لنا مشه ًدا بصر ًّيا‬                     ‫يحجب عنَّا فاعل أو فاعلة الفعل نفسه‪ ،‬وكأن هذا‬
 ‫يضم ظواهر العالم الحسي الحي‪ ،‬وركائز الوجود‬                           ‫الإخفاء نابع من إحالة على سياق مسبق يحيل عليه‬
‫والتجدد الكوني (الشمس والرياح والغيمة والنار)‪،‬‬                          ‫الضمير وعلاقة ضمنية مؤسسة مع فعل التلقي‪.‬‬
     ‫لكن هذه الظواهر الكبرى تبدو في نظر النص‬                            ‫ولا شك أن هذا الإخفاء يبني فرا ًغا وفجوة‪ ،‬وعلى‬
   ‫مجموعة الرفقاء أو الصحبة اليومية التي تتناثر‬                           ‫المتلقي محاولة ردمها تأويليًّا‪ .‬وأحسب أن هذه‬
 ‫حول الذات‪ ،‬أو بمعنى آخر‪ ،‬ليست مفردات الكون‬                           ‫الفجوة تتصاعد جمالياتها الشعرية بوجود «الأنثى»‬
    ‫الحسي‪ ،‬بل مفردات الكون الشعري‪ ،‬التي على‬                           ‫الغائبة‪ /‬الحاضرة في مركزها‪ ،‬تلك الأنثى التي طالما‬
  ‫الشاعر أن يستمع لها في إنصات كامل‪ ،‬ويغمرها‬                             ‫تغنى بها الشعر على اختلاف مدارسه وعصوره‬
    ‫داخل نصه بمعطيات واقعه الجمالي‪ ،‬فالشمس‬                             ‫منذ أقدم مدونة شعرية إلى شعراء الحداثة بجعلهم‬
   ‫تحتسى شا ًيا‪ ،‬والرياح تنام في فراشه‪ ،‬والغيمة‬                       ‫من تلك الأنثى رم ًزا تتجاوب فيها الأحلام الشعرية‬
 ‫تصعد الجدار‪ ،..‬هنا يتحول منطق النظرة الأخيرة‬
   7   8   9   10   11   12   13   14   15   16   17