Page 16 - ميريت الثقافية- عدد رقم 26 فبراير 2021
P. 16

‫العـدد ‪26‬‬    ‫‪14‬‬

                                                       ‫فبراير ‪٢٠٢1‬‬

‫فالتصور الذي تقوم عليه القصيدة القصيرة «يح ّدد‬           ‫بوصفها علامات تحفيزية لتنشيط الأدبية‪ ،‬وذلك‬
 ‫إلى الحد الذي يكفي لرؤيته ‪-‬وحد ًة مفردة‪ -‬تدرك‬         ‫عندما ينجم الغموض عن تداخل الأنساق الوصفية‪،‬‬
‫منذ البدء إلى الانتهاء في توتر عقلي واحد»(‪ .)12‬فهناك‬   ‫والصور والمجازات‪ .‬في هذه اللحظة وبشكل حاسم‬
  ‫وحدة ملتقطة يتركز عليها الخطاب الشعري دون‬             ‫‪-‬على ما يقول ريفاتير‪« :-‬تبطل سيرورة التواصل‬

     ‫إقحام لعناصر أخرى‪ ،‬وكأنها سيناريو محكم‬                   ‫العادية‪ ،‬أي الاستعمال المنفعي للغة‪ ،‬بل يدل‬
  ‫لحدث متواصل‪ .‬ويتجلى انضباط الرؤية في (نظام‬           ‫الغموض على الأدبية بأن يرمز إلى مساهمة القارئ‬
 ‫الضمائر) الذي يتحكم في مسار القصيدة؛ إذ تمتد‬          ‫في نشاط مم َّحض لنخبة ما‪ :‬فإدراك المؤولة النَّوعية‬
  ‫وتتسع لتجذير المتخيل في انسجا ٍم نص ًّي يتوسل‬
‫بصيغة واحدة للضمير تحقيق انتظامه‪ ،‬ويظهر على‬              ‫يفترض مسب ًقا أن يكون القارئ قد قرأ نصو ًصا‬
                                                          ‫كافية تمكنه من تعرفها بأنها عينات من فئة‪ ،‬أي‬
   ‫نحو جلي في كون «ضمير المتكلم» له الغلبة دون‬          ‫من نوع»(‪ .)10‬هذا النشاط الخاص بالتلقي‪ ،‬وأهمية‬
                       ‫ضميري الغياب والخطاب‪.‬‬           ‫بحث القارئ عن القصيدة في مكونها اللغوي‪ ،‬يجعل‬
                                                       ‫ريفاتير يردد قولة مالاميه الشائعة‪« :‬القصيدة سر‬
   ‫وضمير المتكلم في القصائد لا يجعل منها قصائد‬
  ‫غنائية بالمعنى النوعي الدال على سيولة العواطف‬                      ‫وعلى القارئ أن يبحث عن مفتاحه»‪.‬‬
                                                              ‫من جهة أخرى‪ ،‬ترتبط مجاوزة الموضوعات‬
         ‫والمشاعر‪ ،‬في تعارضه مع المنطق السردي‬             ‫الشعرية عند سلام في هذا الديوان وغيره بسمة‬
   ‫الموضوعي‪ ،‬فأعراف القصيدة الحديثة تعمل على‬                  ‫مركزية في شعرية قصيدة النثر‪ ،‬قائمة على‬
    ‫مسافة من الضمائر الشخصية‪ ،‬مستغلة النظام‬            ‫«طغيان الانفعال على الموضوع»‪ ،‬ويدل ذلك في نظر‬
‫اللغوي الذي لا يحدد الضمير‪ /‬الذات إلا بالخطاب‪،‬‬            ‫علماء الشعرية على تحول كامل في العملية الفنية‬
‫لغاية أكثر تمزي ًقا‪ ،‬لتماسك الاتصال اللغوي المعتاد‪،‬‬    ‫والإبداعية‪ ،‬كانت ثمرة الذاتية المهيمنة على الشعرية‬
  ‫فتتم خلخلة التطابق بين مصدر الإرسال الفعلي‪/‬‬             ‫الحديثة؛ لذا انتقل الموضوع إلى دائرة غير مهمة‬
 ‫التجريبي المتمثل في الشاعر؛ إذ لا يتوازى الصوت‬          ‫في نظر الشاعر‪« ،‬بينما نجد الانفعال وقد استأثر‬
                                                         ‫باهتمام الشاعر وأفاد من هذه الأولوية‪ ،‬إذن نجد‬
       ‫مع قائله‪ ،‬وهنا نجد السمة الأكثر جذرية في‬        ‫أن الموضوع لا يقوم بدور الممثل الرئيسي في عملية‬
   ‫الشعر الغنائي الحديث القائمة على اللاشخصية‪.‬‬          ‫الإبداع‪ ،‬أي أن وظيفته أصبحت ثانوية‪ ،‬فهو يقوم‬
   ‫فشخصية الشاعر تنسحب من الصورة‪ ،‬وتتخذ‬                ‫بدور الوسيلة أو حامل الانفعالات التي تقوم بدور‬
                                                         ‫البطولة في العمل‪ ،)11(»..‬فوفق هذا المنطق الإبداعي‬
     ‫القصيدة طاب ًعا «موضوعيًّا» في الظاهر‪ ،‬يغلفها‬        ‫يحدث «الانتقال من موضوعية نسبية وعقلانية‬
    ‫بمنحى درامي‪ ،‬به تستقل القصيدة عن مبدعها‪،‬‬             ‫إلى ذاتية نسبية لا عقلانية»‪ ،‬هذه اللاعقلانية تجد‬
    ‫فالغنائية في شعر س َّلم ليست بالطبع انسكا ًبا‬           ‫ملاذها في إزاحة ظاهرة الموضوع أو «إذلاله»‬
  ‫للمشاعر الصافية إزاء الكون‪ ،‬ولا تعبي ًرا مسط ًحا‬
‫إزاء موضوعات سابقة معروفة‪ ،‬ففكرة الشخص أو‬                              ‫لتراهن على الذاتية والتلقي في أن‪.‬‬
  ‫الذات المتكلمة التي تقوم بالتلفظ‪ ،‬والتي تعد الأداة‬
     ‫الرئيسية في إحلال التماسك على الاتصال‪ ،‬يتم‬                         ‫‪-3-‬‬
‫خلخلتها عندما نعجز عن تصور ذات تقوم بالتلفظ‪،‬‬
  ‫في ضوء الإحالات الغامضة في الرسالة الشعرية‪،‬‬              ‫الظاهرة المسيطرة على بنية الديون تركيبًّا تبدو‬
     ‫فالعلاقة القديمة بين الشاعر والقصيدة لا تعد‬          ‫في أن نصوصه يغلب عليها التنامي وفق مخطط‬
‫حينئذ فرضية ملائمة وأداة ناجحة للوصول إلى فك‬               ‫إحالي واحد مصدره صورة الذات‪ ،‬لذلك تتميز‬
 ‫الشفرة الشعرية وتأويلها‪ ،‬بما يحقق إقامة اتصال‬            ‫بنية النصوص بانضباط زاوية الرؤية‪ ،‬إذ لا يتم‬
‫متماسك‪ ،‬فالمتحدث التجريبي الفردي‪- ،‬كما يوضح‬            ‫تشتيت النص إلى أنحاء تنصرف إليها جهات القول‬
  ‫جوناثان كلر‪ُ « -‬ي َذ َّو ُب أو بالأحرى ُيزاح‪ ،‬ويحول‬     ‫الشعري‪ ،‬بل يتم السيطرة على التصور بالشكل‪،‬‬
 ‫إلى صيغة َت َع ُّد ِد ّية ولا شخصية ‪.)13(»impersonal‬‬
‫إن هيمنة ضمير الذات في الديوان مرتبط بسير نحو‬
   11   12   13   14   15   16   17   18   19   20   21