Page 55 - ميريت الثقافية- عدد رقم 26 فبراير 2021
P. 55

‫‪53‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

 ‫الشاعر الإبداعية ليس إلا كن ًسا للمحدد والمنمط‬       ‫القارئ والمتلقي نحو تفسير محدد بعي ًدا عن‬
       ‫بفعل الزمن في إبداع الآخرين‪ ،‬واختلاف‬          ‫الاحتمالات والممكنات العديدة للتلقي‪ ،‬وتجعل‬
                                                    ‫هذا التفسير أقرب للقبول‪ .‬ومن خلال القراءة‬
‫السياقات الحضارية التي يكون فيها جيل محدد‬          ‫نستطيع أن نتوقف عند مدخل مهم‪ ،‬ويتمثل في‬
      ‫قاد ًرا على الإمساك ببهائها وتجليها الفني‪،‬‬    ‫محاولة التنصل أو التسامي والانعتاق من كل‬
                                                     ‫القناعات العرفية الموروثة بجميع أشكالها في‬
  ‫يتجلى ذلك بشكل واضح حين يقول عن قوس‬                ‫إطار وجود سلطة فاعلة‪ ،‬ويستمر هذا الجذب‬
  ‫قزح في هامش (‪« :)14‬قال‪ :‬أنت سيدي‪ /‬قلت‪:‬‬              ‫والصراع بين الانعتاق والانزواء خلفها وفي‬
 ‫أنت موعدي‪ ،‬متى تكون‪ /‬قال‪ :‬حين تغدو سيد‬
                                                       ‫إطارها‪ ،‬ومن ثم يصبح هذا الانزواء خلفها‬
    ‫الجنون‪ /‬قلت‪ :‬خرقتي بيرقي والصولجان‪/‬‬            ‫نو ًعا من القتل‪ ،‬فيأتي الهامش موجها وواض ًعا‬
      ‫قال‪ُ :‬ص ْم عشرين شه ًرا وانتظرني دهرا)‪.‬‬
                                                      ‫النص حمال الأوجه الدلالية العديدة في إطار‬
 ‫لن يفهم المتلقي هذا المدى الخاص من التساوق‬        ‫الانعتاق‪ ،‬للوصول إلى الأشياء والقناعات بجهد‬
       ‫بين الشاعر وقوس قزح في نص الهامش‬           ‫فردي ذاتي دون مؤسسات جاهزة تحمل سح ًرا‬

     ‫والحوار الدائر بينهما مفضيًا في النهاية إلى‬             ‫خا ًّصا للثبات والتشابه مع المجموع‪.‬‬
   ‫وحدة‪ ،‬دون حركة إلى المتن الأساسي‪ ،‬وتبيّن‬          ‫فالذات هنا تختط لنفسها توج ًها مغاي ًرا بعي ًدا‬
‫حركة المعنى النامية في النص‪ ،‬قبل الوصول إلى‬          ‫عن الهاوية التي يسقط فيها الجميع متدثرين‬
  ‫قوله الذي يضع بعده رقم الهامش (وخدعني‬
‫قوس قزح) (‪ .)14‬فحركة المعنى قبل ذلك كانت‬               ‫بالمجموع‪ ،‬فالأمر هنا لا يرتبط بالتنصل أو‬
‫تشير إلى فقدان التحديد الصارم للأشياء‪ ،‬حيث‬            ‫الانعتاق من نمط مؤسس‪ ،‬ولا يرتبط بثنائية‬
                                                  ‫التراث والحداثة‪ ،‬وإنما يرتبط بمنطق الخروج أو‬
     ‫يتجلى هذا الوعي في إطار خيطين أو لونين‪،‬‬      ‫الاختلاف في حد ذاته‪ ،‬للإشارة إلى فرادة الرؤية‬
  ‫هما الأبيض والأسود‪ ،‬بوصفه وعيًا قائ ًما على‬        ‫والمقاربة عن المجايلين والسابقين‪ ،‬وحتى عن‬
  ‫التحديد‪ .‬هذا الوعي يمثل الشعرية السابقة في‬         ‫الصور التي تؤسسها الذات لنفسها للابتعاد‬
‫الارتباط بآفاق محددة سل ًفا ومؤسسة ومسيجة‬
                                                                     ‫وتجاوز التنميط بشكل دائم‪.‬‬
         ‫بسياجات مشدودة للعاطفي والوطني‪.‬‬          ‫تتأسس المغايرة والاختلاف من خلال الإنصات‬
    ‫ولكن الشعرية التي يؤسس لها ‪-‬شعريته‪-‬‬             ‫إلى صوت الذات الشاعرة‪ ،‬وابتعادها عن المتاح‬
                                                   ‫والمؤسس‪ ،‬وهو في إطار هذا الاختلاف يؤسس‬
       ‫شعرية مبنية على التعدد‪ ،‬التعدد الخيطي‪،‬‬
‫والتعدد اللوني‪ ،‬والتعدد في مقاربة الأمور‪ ،‬فهي‬         ‫خرو ًجا عن الأعراف التي لا تبتعد كثي ًرا عن‬
                                                       ‫المؤ ّسس الفني‪ ،‬حيث يقوم ‪-‬على حد تعبير‬
     ‫في ظل هذا التصور متداخلة ومعقدة تعقي ًدا‬        ‫النص الشعري‪ -‬بإضرام النار لكي تأكل هذا‬
   ‫شدي ًدا‪ ،‬ومن ثم يمكن فهم طبيعة هذا التوحد‬          ‫المؤسس المملوء بالأوهام التافهة‪ .‬فالذات من‬
    ‫بين الشاعر وقوس قزح‪ ،‬بوصفه كاش ًفا عن‬           ‫خلال نصي المتن والهامش تتخلى عن أرديتها‬
‫وعي جديد في إدراك العالم‪ ،‬وفي مقاربة الأمور‪،‬‬        ‫المعهودة‪ ،‬وتتحلى بالجنون الذي يأتي بوصفه‬
                                                         ‫نقطة الانطلاق الأساسية لملامح الشعرية‬
      ‫وبالضرورة يكون مؤث ًرا في إنتاج شعرية‬          ‫الجديدة‪ ،‬فليس هناك اتساق بين الصور على‬
    ‫جديدة‪ ،‬لا ترتبط بالمحدد أو المسيّج الجاهز‪.‬‬    ‫المستوى الواقعي‪ ،‬وإنما هناك تدابر وتنافر‪ ،‬فقد‬
‫يؤيد هذا الفهم من خلال العناية المتوازية بنصي‬         ‫سقطت اليوتوبيا المنطلقة من رسالة الشعر‪،‬‬
    ‫الهامش والمتن‪ ،‬ويجعل له مشروعية‪ ،‬انتقاء‬           ‫وسقط الالتزام بمعناه العملي‪ ،‬ولم يعد هناك‬
    ‫النص الشعري شعريات وشعراء لهم تأثير‬           ‫سوى واقع جهم‪ ،‬لا تفلح مواجهته إلا بالجنون‪.‬‬
     ‫واضح في الشعرية العربية المعاصرة‪ ،‬ومن‬          ‫اختيار الجنون بوصفه منطل ًقا أساسيًّا للحظة‬
‫أجيال سابقة دخلت في طور التأسيس‪ ،‬ويتوقف‬

       ‫النص الشعري أمامهم وأمام نصوصهم‬
    ‫بالملاحظة والمقاربة‪ ،‬ومن خلال هذه المقاربة‬

       ‫يقترح بدي ًل‪ ،‬لا يتشكل في حدود الأسس‬
   50   51   52   53   54   55   56   57   58   59   60