Page 51 - ميريت الثقافية- عدد رقم 26 فبراير 2021
P. 51

‫‪49‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

  ‫الإبداع والباحث عن العلاقات الدامغة اليقينية‬    ‫الأساسية في ذلك الديوان تتمثل في نقل الفحوى‬
                                   ‫بين الصور‪.‬‬      ‫الإنسانية القلقة التي تظهر وكأنها تمثل تحد ًيا‬
                                                        ‫متعم ًدا‪ ،‬لقوانين الإبداع المستقرة والمعبدة‪،‬‬
     ‫في الاقتباس السابق هناك إصرار قوي على‬                       ‫ومحددات العرف‪ ،‬وثوابت الفن‪.‬‬
‫خلخلة الأسس التي تستند إليها الكتابة الجديدة‪،‬‬         ‫فالقارئ لهذا الديوان لا يطالع تجربة ناجزة‬
‫من خلال تحولها إلى مستقرة مسترشدة بمنطق‬             ‫مشدودة إلى مؤسس جاهز يحتمي بتشكيلات‬
‫عقلي يجمع ويرمم العلاقات‪ ،‬إلى كتابة قائمة على‬          ‫تجارب الحب المعهودة أو الوطن أو الأنماط‬
‫انتهاك منطقية العقل‪ ،‬والعمل على تحرير الشعر‬           ‫الفنية المتكلسة‪ ،‬وإنما يقابل بمحاولة إبداعية‬
                                                     ‫أشبه بالطردية للوصول إلى شيء يصعب أو‬
   ‫من الثبات والاستقرار‪ ،‬فالثيران الهاربة التي‬    ‫يستحيل الوصول إليه‪ ،‬لأنه متعا ٍل وغير محدد‪،‬‬
   ‫تجتاح الشوارع معادل حرية وانفلات وهدم‬           ‫ويتشكل وميضه في إطار هذا التعالي في انفلات‬
‫للمنطقية‪ ،‬ومن هنا يأتي المرح غير المب ّرر‪ ،‬وكأنه‬        ‫جزئي من التشبيهات والمجازات الصادمة‬
 ‫استجابة داخلية راضية لهذا التخطي للمؤسس‬                                           ‫للوهلة الأولى‪.‬‬
   ‫والقفز عليه‪ .‬وفي إطار ذلك نستطيع أن نفهم‬           ‫الإلحاح على أهمية (الإشراقات) له ما يبرره‬
     ‫الجزء الأخير من الاقتباس بوصفه محاولة‬             ‫معرفيًّا وجماليًّا‪ ،‬لأننا ربما نعاين ‪-‬وهذا لا‬
    ‫هدم وولادة‪ ،‬مع استحضار ملامح الاندياح‬                ‫يتك ّرر كثيرا‪ -‬ن ًّصا فنيًّا أقرب إلى الهذيان‬
     ‫والانزياح بين دلالة الآية‪ ،‬ودلالة الجملة في‬   ‫المتحرر من كل مواضعة‪ ،‬ذلك الهذيان المشدود‬
 ‫النص الشعري‪ ،‬فكأن البطل‪ /‬الشاعر في منطق‬                   ‫إلى منحى فكري وإلى إيحاء دلالي فني‪،‬‬
     ‫الكتابة الشعرية التي يمثلها‪ ،‬ويشعر بالمرح‬       ‫فنصوص هذا الديوان ليست مهمومة بترابط‬
    ‫غير المب ّرر بسبب شيوعها‪ ،‬وتخطيها أنقاض‬        ‫الصور الجزئية أو المجهرية‪ ،‬ودورها في تشييد‬
‫الشعرية السابقة المستندة إلى الوزن والعروض‪،‬‬             ‫معنى عام من خلال التجاور أو التجاوب‪،‬‬
 ‫بوصفه وج ًها من وجوه الثبات والركون‪ ،‬يمثل‬          ‫ولكنها من خلال هذا الهذيان الحر غير المحدد‬
‫انتصا ًرا وارتبا ًطا بلحظة حضارية آنية تلقف ما‬     ‫بمواضعة سابقة تشكل راب ًطا خفيًّا تؤسس له‪،‬‬
                                                  ‫يتمثل في اختراق الممنوعات والمحرمات الشعرية‬
                                ‫سبق وتتخطاه‪.‬‬                            ‫في كل تجلياتها وهيئاتها‪.‬‬
      ‫إن الوقوف عند نص (الإشراقات) وقوف‬               ‫هذا الهذيان ‪-‬أو ما نعده هذيا ًنا بمسمياتنا‪-‬‬
    ‫متعمد‪ ،‬للإشارة إلى أنه نص له خصوصية‪،‬‬              ‫ليس هذيا ًنا‪ ،‬وإنما هو محاولة لإعادة القيمة‬
       ‫بوصفه حمال أوجه عديدة للتأويل‪ ،‬فهذا‬           ‫للتشكيلات الصورية الجديدة‪ ،‬فالصور التي‬
      ‫الديوان يؤسس لمجال فكري يجمع الذاتي‬           ‫نراها تعاني من عدم الترابط النفسي والدلالي‬
    ‫والإنساني والتاريخي الممتد عبر القرون من‬        ‫على المستوى الواقعي المباشر‪ ،‬تنقل لنا فحوى‬
 ‫خلال انزياحات وارتدادات للخلف‪ ،‬ومن خلال‬             ‫فكرية معرفية مرتبطة بحالة الثورة المستمرة‬
  ‫هذه الارتدادات غير المشدودة لمنطق يلمها على‬
  ‫المستوى المباشر السطحي يقدم نق ًدا من خلال‬      ‫التي تبني وجودها وإطارها على أنقاض السابق‪،‬‬
   ‫الكتابة الشعرية لكل ما هو متعا ٍل ومؤسس‪.‬‬         ‫فحين يقول رفعت سلام‪« :‬لماذا تهرب الثيران‬
     ‫وانطلا ًقا من كون نص (الإشراقات) حمال‬         ‫من القصيدة الأخيرة‪ -‬وتجتاح الشوارع بغتة‪،‬‬
  ‫أوجه تأتي فكرة الهوامش والحاشية‪ ،‬واضحة‬               ‫وأنا مرح دون مناسبة‪ ،‬أصرخ في البرية يا‬
       ‫الدلالة مشيرة إلى مشروعية اختلافه‪ ،‬في‬         ‫قوم قد زهق الحق‪ ،‬وجاء الباطل‪ -‬إن الباطل‬
                                                     ‫كان فعولا»‪ ،‬فالقارئ يدرك أن هناك محاولة‬
         ‫انفتاحه على تأويلات عديدة‪ .‬فإذا كانت‬        ‫إبداعية خاصة لإعادة القيمة والألق للفنتازيا‪،‬‬
  ‫النصوص الشعرية يتم الاختلاف حولها‪ ،‬فإن‬                ‫بوصفها الوجه المقابل للمنطق الواقعي في‬

     ‫النصوص التي تحمل صفة (البيان) بمعناه‬
 ‫الكاشف عن مغايرة السابق يجب أن يصاحبها‬
 ‫شروح وحواش لتكشف عن قيمتها من جانب‪،‬‬
   46   47   48   49   50   51   52   53   54   55   56