Page 104 - مسيلة للدموع
P. 104

‫اليوم موعد محاكمة آسر‪ ،‬ومحمد‪ ،‬وآخرين معهم في القضية نفسها‪.‬‬
       ‫محمد تزداد حالته سوءا‪ ،‬قد عاد للتو من عند طبيب السجن العاجز عن تشخيص الحالة‪ ،‬فيقول أي شيء‬
       ‫يوحيه له خياله‪ ،‬كطالب لم يعلم شيئا عن المنهج ثم يدخل الامتحان‪ ،‬فيملأ الورق بكثير من التأليف‬
       ‫والتَُّرهات التي لا تمت للصواب ب ِصلة‪ ،‬مرة يقول إن محمدا يعاني من الأنيميا‪ ،‬وأخرى يقول إنه مصا ٌب‬

                                                             ‫بالتيفود‪،‬وثالثة يعود فيقول إنه فيروس في الكبد!‬
                ‫هكذا‪ ،‬بدون عمل تحاليل أو أشعة أو أي شيء‪ ،‬مجرد نظرة تفحصية من طبيب السجن والسلام‪.‬‬

       ‫محمد لا يستطيع الوقوف على قدميه‪ ،‬ولا يقوى على الحركة‪ ،‬يشعر دائما بالإعياء‪ ،‬تنزف أنفه بين الحين‬
                                                                                    ‫والآخر‪ ،‬استُنزفت قواه‪.‬‬

       ‫كيف سيذهب اليوم إلى المحاكمة؟ نصحه زملاؤه ألّا يذهب اليوم إلى المحاكمة‪ ،‬لكنه خشي من قلق‬
                                                                      ‫والديه عليه‪ ،‬بالتأكيد سينتظ ارنه هناك‪.‬‬

       ‫طمأنه آسر أن محاميه سوف يخبرهم‪ ،‬وأنه سيخبر القاضي عن حالته إذا ُس ِمح له بالتكلم‪ ،‬لكنه رفض‪،‬‬
                                                                           ‫وآثر أن يذهب؛ لكي يرى والديه‪.‬‬

       ‫ذهب محمد ليركب عربة الترحيلات مسنودا على أكتاف زملائه‪ ،‬وهل للمعتقل سنٌد بعد الله غير أكتاف‬
                            ‫رفاقه من المعتقلين؛ ليستند إليها‪ ،‬ويتقّوى بها في مواجهة اللاحياة بقليل من الحياة؟‬

       ‫ركب المعتقلون العربة‪ ،‬أُغلقت حتى صارت كصندوق مظلم صغير به بعض الثقوب الصغيرة‪ ،‬كان آسر‬
               ‫يسترق من خلالها النظ ارت؛ ليرى الشوارع‪ ،‬والناس‪ ،‬والطرقات‪ ،‬تلك الأشياء التي ظّنأنه قد نسيها‪.‬‬

       ‫للمرة الأولى ينتبه لتلك الأشياء النمطية جدا‪ ،‬كملابس الناس ال ُملّونة‪ ،‬وشرود المارة في الطرقات‪ ،‬كل‬
       ‫واحد في شأنه‪ ،‬وأحبال الغسيل المنشورة عليها ملابس لكل أسرة‪ ،‬تتنوع بين ملابس الأب والأم والأطفال‪،‬‬
       ‫فهل أرباب تلك الأُ َسر يتحدثون مع أولادهم بشأن الحرية والعدل والنضال؟ أم أن النضال يقتصر فقط‬

                                                                  ‫على نيل لقمة العيش‪ ،‬وتحصيل الدرجات؟‬
       ‫هل أدرك الناس أن الحياة ليست طعاما وش اربا ونوما فقط‪ ،‬هل يسعون للحياة التي ُينصر فيها المظلوم‪،‬‬
       ‫وُيعاقب فيها الظالم‪ ،‬ويتكلم فيها الشعب بكلمة الحق؟ أينتبه أحد من الناس لمنمثلي‪ ،‬ومثل محمد‪ ،‬وكل‬

                                                                                                ‫من معنا؟‬

‫‪104‬‬

                                                                                             ‫مسيلة للدموع‬
   99   100   101   102   103   104   105   106   107   108   109