Page 106 - مسيلة للدموع
P. 106

‫بدا المعتقلون داخل قفص الاتهام بملابسهم البيضاء كهالات من النور‪ ،‬وبدا القضاة الجالسين على‬
                                                         ‫منصتهم بملابسهم السوداء كقطع من الليل مظلمة‪.‬‬

                                                                               ‫وكأن النور يحاكمه الظلام‪.‬‬
                                                                    ‫وبياض الحق في مواجهة عتمة الباطل‪.‬‬
                                 ‫فالظلام ُيحاكم النور‪ ،‬ويوجه إليه التهم الباطلة‪ ،‬وكأنه يقول له‪ :‬لماذا تُضيء؟‬
             ‫فترّد هالات النور على بقع الظلام الدامسة تلك‪ ،‬وتقول‪ :‬سلوا أنفسكم إذن‪ ،‬لماذا تُظِلموَن وتَظلِمون؟‬

                                                                          ‫ألي َس الحكُم بّين‪،‬والتهمة داحضة؟‬
       ‫فاضرب أيها القاضي بعصاك الخشبية؛ ليصمت الجميع؛لينتبهوا إلى حكمك الظالم‪ ،‬هَّيا تكَّلم‪ ،‬ل َك الوي ُل‬

                                                                                       ‫من قاضي السماء!‬

       ‫أمام منصة القضاة يصطف أهالي المعتقلين المترقبين‪ ،‬أعينهم تدور يمينا ويسا ار‪ ،‬ترمش في أضيق‬
       ‫الحدود‪ ،‬وكأن تلك العيون في (ما ارثون)‪ ،‬تتسابق فيما بينها أيهم يرى معتقله أولا؟ ومن ي اره بصورة‬

                               ‫أوضح؟ ومن يتعرف عليه من بعيد‪ ،‬والأسلاك تغطي ملامحه‪ ،‬وتشّوش رؤيتها؟‬

       ‫حكايات طويلة تُحكى بالإشا ارت لا بالكلام؛ فالابنة تلف أصابعها الصغيرة لتصنع قلبا فيشاهده أبوها‪،‬‬
                                                    ‫الذي يقف خلف القفص‪ ،‬قائلا‪ :‬وأنا أيضا أحُب ِك يا ابنتي!‬

       ‫وأٌم تلف ذ ارعيها لتحتضن نفسها محاولة كبح أشواقها المندفعة‪ ،‬وكأنها تقول لابنها‪ :‬أنت نفسي التي ُسلبت‬
                                       ‫مني‪ .‬وكأنها تذكره طفلا رضيعا لم يفارق ذ ارعيها أبدا إلا عندما اعتُقل‪.‬‬
                                                          ‫أليس الرجل في عيني أمه طفلا مهما كبر أو هِرم؟‬

       ‫وزوجة ترفع رضيعها الذي ُولد وأبوه في المعتقل؛ لكي ي اره لأول مرة‪ ،‬ليكبر مئات الم ارت‪ ،‬ويحبو‪،‬‬
                                                                              ‫ويمشي‪ ،‬ويتكلم دون أن ي اره‪.‬‬

       ‫ومن يحمل ورقة مكتوب عليها بخط عريض؛ ليق أرها من همبالقفص‪ ،‬ومن يبتسم ابتسامة أو يلوح بتعبير‬
                                                      ‫فيسرد مسلسلا من عش ارت الحلقات بعدد أيام الاعتقال‪.‬‬

‫‪106‬‬

                                                                                             ‫مسيلة للدموع‬
   101   102   103   104   105   106   107   108   109   110   111