Page 137 - مسيلة للدموع
P. 137
ح ّل شهر رمضان ،لم يصل نور الهلال بعد إلى تلك الغرف الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها مت ار في
متر ،ولن يصل!
تلك الزنازين الانف اردية التي يعيش فيها المعتقل بمفرده شهو ار أو سني َن.
واذا ما قلنا يعيش المعتقل بمفرده فإن المعنى في تلك الكلمة يتجسد بكل حر ٍف فيها ،لا يوجد معه أحد ،لا
ُيسمح له بدخول الكتب ،ولا حتى بدخول مصحف!
الأو ارق والأقلام قطعا من الممنوعات ،بل من المحّرمات ،ماكينات الحلاقة ،وُفَرش الأسنان ،وجميع أدوات
النظافةممنوعة كلها.
الشمس ممنوعة ،والضوء ممنوع ،وحتى الهواء ُيح َجب ،فلا توجد بها تلك النوافذ الصغيرة بقضبانها
الحديدية التي توجد في الزنازين العادية.
ُغرف الزنازين الانف اردية ليس بها ح ّمام ،لا شيء غير وعاء أو جردل يقضي فيه المعتقل حاجته وحسب،
أبسط الحقوق الإنسانية غير متوفرة هناك ،ابتعد بخيالك كيفما شئت أن تبتعد ،فمهما ابتعدت لن تبلغ مت ار
واحدا من أميال الواقع.
كان آسر في إحدى تلك المقابر الضيقة يحادث نفسه طوال الليل والنهار ،بل إنه لا يعرف حتى هل
التوقيت ليلا أم نها ار ،لا شمس تدل على النهار ،ولا قمر يدل على الليل ،ولا توجد أصوات بشرية أو غير
بشرية تتحدث حوله عن حكايات الصباح والمساء ،فتؤنسه أو تسّليه.
كان يقضي وقته الطويل الذي يمر مرور السلحفاة بين التسبيح وق ارءة الق آرن من ذاكرته؛ فقد كان حافظا
للقرآن كله ،كان يصلي جميع الصلوات دون العلم بموعد كل صلاة.
فوائض وقته الكبيرة كان يقضيها في الحديث مع نفسه؛ فلا يوجد معه في الزن ازنة من أحٍد يناجيه غير
نفسه.
137
مسيلة للدموع