Page 56 - مسيلة للدموع
P. 56
كفاِقد الوعي الذي ابتدأ بفتح عينيه شيئا فشيئا ،محاولا إد ارك ما حوله ،كانت تالا في حالة عدم استيعاب
لما حدث طوال اليوم ،كأنها ُضربت على أرسها عدة ضربات متتالية حتى أفقدتها الوعي ،ولم تبدأ الإد ارك
إلا عندما سمعت صوت باب الزن ازنة الحديدي الغليظ ُيغلق بقوة بصوته القاسي ،لُيحدث رّجة في أرجاء
جسدها النحيل ،وُيعلن محاصرتها بين أربعة حيطان ،مكان ُمظلم كئيب ،لا يوجد به منفذ غير المربع
الحديدي الذي تتخلله اسطوانات حديدية أرسية ،يقول لها:
«نعم ،ها أنا ذا ،السج ُن يا تالا ..أنا ال ُمعتقل الذي طالما سمع ِت عنه ،وشاهدِته في الأفلام ،إنه أنا،
ولكني في الحقيقة أسوأ بكثير مما أريِته في التلفاز».
بدأت تالا الاستفاقة من حالة الذهول التي انتابتها ،بدأ شريط أحداث اليوم ُيعرض عليها رويدا رويدا..
دينا مصابة ،تنزف ،عادل يحملها ،اعتقالها ،التحرش بها داخل عربة الشرطة ،اعتقال كرم ،دخول القسم،
الجلوس في وضعية أسرى الحرب ،تحطيم هاتفها ،واهانتها،واهانة كرم،ولسعه بالسيجارة...
حاولت أن تقنع نفسها بأن ذلك كله كان كابوسا لم يكن واقعا ،ولكن كيف أن أصابعها ما ازلت تؤلمها من
تأثير الضربة؟ تذكرت التفتيش الذاتي قبل دخولها الزن ازنة ،لم يكن تفتيشا بل كان تحرشا صريحا متكامل
الأركان ،لم تترك المسؤولات عن التفتيش جزءا من جسدها لم تعبث به ،ربما تحمل أسلحة نووية في جيب
بنطالها ،أو (آر بي جي) تحت حجابها.
خرجت تالا من معركة التذُّكر لما حدث طوال اليوم لتُصَدم بمعركة ثانية ،مجموعة من الجنائيات يجلسن
بأْريحّية ،وكأن الزن ازنة مملكتهن الخاصة ،بعضهم تشربن أكواب الشاي ،وبعضهن تدخن السجائر بجميع
أصنافها ،واختلاف المادة الفعالة بداخلها ،أكانت تبغا أم بانجو أم حشيشا أم أصنافا أخرى لا تعرف تالا
شيئا عنها ،ارئحة المكان خانقة من كثرة الدخان.تتحدثن بصوت مرتفع ،وتتخلل حديثهن كلمات بذيئة لم
تعتدها تالا.
كانت الجنائياتتتقاذفن الكلمات حول تالا ،وتسخرن من تعبي ارت وجهها الخائفة،وشكلها الذي أصبح أشبه
بقذيفة بركانية خرجت للتو من فوهة بركان ثائر ،ك ّن يضحكن بغير همس أو تخ ٍف ،كانت السخرية
صريحة ،تحمل من البجاحة ما يكفي ،نعم هذا نذير بلطجة ،الطريقة السائدة لأخذ وسلب وتوزيع الحقوق
في هذا البلد ،لتحل البلطجة محل القانون ،وتصبح الدولة دولة البلطجة لا دولة القانون.
56
مسيلة للدموع