Page 54 - مسيلة للدموع
P. 54

‫لاحظت أحدهم يشير إلى أحد من خلفي ثم أشار إل ّي‪ ،‬أدركت أنني كن ُت مطلوبا للاعتقال‪ ،‬وأن الذي‬
‫خلفي ماهو إلّا ُمخبر‪ ،‬لم أضيع الوقت في التفكير‪ ،‬انطلقت أجري سريعا‪ ،‬سمعت توبيخ أحدهم لهذا‬

                                                               ‫المخبر أن يلحق بي‪ ،‬لكني لم ألتفت‪.‬‬

                    ‫قالت حورية بصو ٍت حزين هادئ محاولة تهدئة آسر‪ ،‬وحديثها يخالطه بكاء مخنوق‪:‬‬
‫‪ -‬لا تحزن‪ ..‬إسلام بإذن الله شهيد‪ ،‬قد أ ارحه الله من شقاء الدنيا‪ ،‬وأ ارد له الجنة‪ ،‬لا تبتئس‪ ،‬فالدنيا ازئلة‪،‬‬

                                 ‫ولا يهمك أن فاتك الامتحان‪ ،‬الحمد لله الذي نجاك من القوم الظالمين‪.‬‬

‫هَّز آسر أرسه موافقا على كلامها‪ ،‬وقام متجها نحو أمه وجلس بجانبها‪ ،‬ثم قّربها نحوه‪ ،‬وقَّبل أرسها واضعا‬
                                          ‫كلتي يديه على خديها‪ ،‬يمررهما ببطء صعودا ونزولا‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪ -‬أمي‪ ،‬لا يمكنني المجيء هنا بعد الآن‪ ،‬إنني مطلوب لدى الأمن بشدة‪ ،‬سأضطر لأخذ بعض الملابس‬

‫التي أحضرِتها‪ ،‬وسأتصل بكم؛ لأطمئن عليكم بين الحين والآخر‪ ،‬وسألتمس أي فرصة لكي أ اركم فيها‪..‬‬

‫فمن‬  ‫معه‬  ‫الله‬  ‫كان‬  ‫من‬  ‫عل ّي‪،‬‬  ‫بنفسك أيضا‪ ،‬لا تقلقن‬   ‫فاطمة‪ ،‬اعتني بنفسك وبأمي‪،‬وأن ِت يا حورية اعتني‬
                                 ‫كما كنت البطلة دائما‪.‬‬  ‫عليه؟أمي‪ ،‬لا تنسيني من دعائك‪ ،‬أري الله أن ِك بطلة‬

‫أخذته أمه بين ذ ارعيها‪ ،‬وضمته ثم مسحت على أرسه‪ ،‬اندفع آسر نحو أمهكالعطشان الذي لم يَر الماء‬
‫منذ عام! ُحضن أمه حيث الأمان البعيد عن الاعتقالات والأحداث‪ُ ،‬حضن أمه حيث وطنه الخاص‪،‬‬
‫الوطن العادل الحنون‪ ،‬تعَّلق بها كالطفل‪ ،‬أغمض عينيه‪ ،‬وأ ارد أن ينام‪ ،‬لكن الوقت ليس وقت النوم‪ ،‬بل‬

                                                                                    ‫وقت المقاومة‪.‬‬

‫اعتدل واقفا ثم طلب من حورية الدخول إلى الغرفة؛ لاستبدال ملابسه المهترئة‪ ،‬وحذائه الذي تمزق‪،‬‬
                                                      ‫ببعض الملابس التي جلبتها له أمه‪ .‬نادته أمه‪:‬‬
                                                           ‫‪ -‬إلي أين ستذهب يا آسر؟ وأين ستبيت؟‬

                           ‫‪ -‬لا أدري حتى الآن يا أمي‪ ،‬ولكن لا تقلقي‪ ،‬تعلمين ابنك‪ ،‬لا يعجزه شيء‪.‬‬

‫وابتسم ابتسامة لا يعلم بشر على وجه الأرض ما تخفيه و ارءها غير قلب أم‪ ،‬استدار باتجاه الغرفة‪ ،‬وأمه‬

                                         ‫في داخلها تعاتبه على تلك الابتسامة القاسية جدا على نفسه‪:‬‬
                        ‫‪ -‬اب ِك يا بُني‪ ،‬اب ِك‪ ،‬لا تتصنع الابتسامة من أجلي‪ ،‬ل َك كل الحق في أن تبكي‪.‬‬

‫‪54‬‬

                                                                                            ‫مسيلة للدموع‬
   49   50   51   52   53   54   55   56   57   58   59