Page 59 - مسيلة للدموع
P. 59
حاول الضابط أن يكبح جماح غضبه ،أنزل ساقيه من على المكتب ،واعتدل واقفا ُمش ّم ار أكمام قميصه،
اتجه نحو كرم ،والتف حوله مرة ،ومرتين ،وكرم ثابت لا يتحرك أو يتلَّفت.
اقترب منه الضابط ،ووضع عينيه أمام عيني كرم التي لم يحِنها مطلقا للمرة الثانية ،تلك النظرة الثابتة
التي جعلته يستشيط غضبا ،النظرة التي دائما ما تفسد عليه هدوءه المصطنع ،وتجعله أشبه بالمجنون
الغاضب.
بحركة سريعة طائشة صفع كرم كفا ُقرب عينيه ،تلك العينان الجريئتان اللتان يخسر أمامهما التحدي في
كل مَّرة ،أمسك بشعره الطويل المجعد ،وجَّره منه حتى أجلسه على الأرض ،ووضع قدمه على ظهره ،نظر
لصبيه العسكري ،وقال:
-لا أريد أن أرى ذلك الشعر القذر مجددا ،احلقوا له شعره..
وأنت ،ما هذا الذي حول يديك؟
كان كرم يرتدي (ح ّظاظة) ،مكونة من ثلاث حلقات؛ الحلقة الوسطى كانت بيضاء،ومطبوع عليها باللون
الأسود شكل قبضة اليد ،الرمز الثوري للهتاف ،والحلقتان الأخريان كانتا سوداوين ،تلك (الح ّظاظة)
أعطتها إياه زوجته وقت الثورة ،حينما كانا مخطوبين ،ومن حينها لم ينزعها من يده أبدا ،حتى صارت
علامة مميزة له ،فإذا سألك أحدهمَ :من كرم؟ تقول :كرم الذي يرتدي (ح ّظاظة).
أمسك كرم (الح ّظاظة) بيده الأخرى ،خاف أن ينزعها منه منزوع القلب الذي أمامه ،لا بأس أن يتح َّمل
عنها بعض الضربات في سبيل أن تبقى هي ومعصمه في عنا ٍق أبد ّي.
أتبع الضابط حديثه قائلا:
-لا يعجبني شكلها ،إن أريتك ترتديها مرة أخرى فسأقطع يدك.
هنا في المعتقل عبارة «سأقطع يدك» ليست مجازية كما يتداولها العامة ،بل إنها يمكن أن تطَّبق بمعناها
الحرفي ،ولن يكون ذلك شيئا ُمستغربا أبدا.
ركل الضابط يديه بقوة ،فاستلقى كرم على الأرض من شدة الألم ،استمر الضابط في ال ُسباب والركل ،إلى
أن أخذت نفسه المريضة جرعة ال ِخ َّسة حتى ارتوت بها.
59
مسيلة للدموع