Page 62 - مسيلة للدموع
P. 62

‫استغرقت حورية في بكائها الذي تتخلله الثرثرة‪ ،‬تُحّد ُث نفسها ب ُحرقة‪ ،‬تمَّنت لو أنها أمام جمهور حقيقي‬
      ‫بعدد سكان العالم؛ لتخبره مدى الظلم والطغيان؛ لتفضح الانتهاك الصارخ لذلك النظام أمام مَّدع ّي‬
      ‫الإنسانية‪ ،‬ورَّواد الح َرّية‪ ،‬وأصحاب الشعا ارت ال َرّنانة الذين يشاهدون ولا ينطقون‪ ،‬ولا يخطو حديثهم خطوة‬

                                                                                         ‫أبعد من اللسان‪.‬‬

      ‫تمَّنت أن لو تصرخ فيهم وتصيح‪ ،‬تمَّنت أن توبخهم وتحيي ضمائرهم‪ ،‬وهل بقي بعد مايحدث ضمير؟ كل‬
                       ‫هذا الكلام لن يجدي؛ ﴿فإنك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصَّم الدعاء إذا ولوا مدبرين﴾‪.‬‬

      ‫يارب‪ ،‬يا جَّبار‪ ،‬يا سميع الدعاء‪ ،‬أخبرنا عن أحواله فقط‪ ،‬طمئَّنا عليه ولا مزيد‪ ،‬آٍه يارب لو تُسمعنا صوته‬
                                                                             ‫من جديد‪ ،‬فقط صوته يارب‪.‬‬

      ‫انتفضت حورية من مكانها فجأة‪ ،‬قالت مسرعة‪« :‬نعم‪ ،‬نعم‪ ،‬صوته من جديد‪ ،‬يا إلهي كيف نسيت؟!‬
                                           ‫الشريط ال ُمس َّجل بصوت آسر‪ ،‬هدية ليلة خطبتنا‪ ،‬بل هدية اليوم»‪.‬‬

           ‫ارتسمت ابتسامة صادقة على ذلك الوجه المخ ّضب بالدموع‪ ،‬لا تحزني؛ فستسمعين صوته من جديد!‬

      ‫قفزت حورية مسرعة من على السرير‪ ،‬أ ازلت مرتبته القطنية الثقيلة بيديها الصغيرتين وكأنها الرجل‬
      ‫الخارق‪ ،‬ظّلت تفتّش بين الحاجيات المت اركمة تحت السرير عن جهاز التسجيل‪ ،‬وهي تتمتم بكلمات‪،‬‬

                                                                             ‫وعقلها لم يتوقف عن الثرثرة‪:‬‬
      ‫‪ -‬جهاز التسجيل‪ ،‬أيها الهادئ الوديع المستلقي تحت السرير منذ سنين‪ ،‬صامتا لم تتفَّوه بكلمة‪ ،‬اليوم أتتك‬
      ‫الفرصة لتتحدث‪ ،‬لتثرثر‪ ،‬لتُحسن إل ّي بأن تُسمعني صوت آسر‪ ،‬أرجوك ُكن بخير‪ ،‬أتمنى ألّا يكون قد‬
      ‫أصابك عطل أو ضرر‪ ،‬أعتذر ل َك بشدة عن ذلك الغبار الذي يعتليك‪ ،‬لكنني أعدك بأنني سأتركك تثرثر‬

               ‫طوال الليل‪ ،‬سأدعك تنتهي من حديثك لآخر كلمة من شريطك‪ ،‬ثم أقلبه لأعيد تشغيله من جديد‪.‬‬

      ‫أيها الجهاز القديم المتهالك‪ ،‬أن َت أفضل عندي من كل تلك التكنولوجيا ال ُمتكّلفة التي لا تصلني بآسر‪ ،‬فما‬
      ‫فائدة التكنولوجيا كلها إذا مادامت غير قادرة على أن تعلمك مكان نصفك المخطوف‪ ،‬تلك التكنولوجيا‬
      ‫التي استطاعت أن تستقبل موجات ال ارديو من الفضاء‪ ،‬ولم تستطع أن تستقبل موجات قلبين عاشقين‬

                              ‫أقرب إلى بعضهما من ُقربي من َك يا جهاز التسجيل‪ ،‬وقربه من قيده الذي بيديه‪.‬‬

‫‪62‬‬

                                                                                            ‫مسيلة للدموع‬
   57   58   59   60   61   62   63   64   65   66   67