Page 65 - مسيلة للدموع
P. 65
بعد 24ساعة من اعتقاله 1440 ،دقيقة من الانتظار ،والعذاب ،والألم ،قضاها معصوب العينين ،مقّيد
اليدين ،واقفا على قدميه لساعات ،لا يعرف أين هو؟ وكم قضى من الوقت؟ وكم سيقضي؟؛ فالدقيقة تمر
وكأنها عام.
لا يعلم إن كان وحيدا في هذا المكان ،أم معه أحد من المعتقلين ،أم أن كل الذين يحيطون به من
الشياطين ،لا يدري؛ فقد ُحكم عليه أن يبقى أعمى ،لا يرى حتى تُ ازل عصابة عينيه ،عاج از عن الحركة
حتى ُي ازل قيده ،لا ُيسمح له أن يتفّوه بكلمة ،واذا حاول أن يتمتم بذكر أو دعاء أو حتى أ ارد أن يسأل عن
أي شيء ،فقد حجز لنفسه تذكرة تعذيب مجانية ،وما أكثرها هنا!
وعندما نال التعب من آسر إلى الحد الذي أدى إلى انخفاض ضغط دمه بشكل كبير ،شعر بدوار شديد،
لم يستطع أن يحافظ على توازنه ،فهو واقف على قدميه منذ ساعات ،لم يأكل أي شيء،ولم يرتشف حتى
قطرة ماء واحدة ،وما إن أسند آسر أرسه إلى الحائط الذي أمامه حتى اهتزت أرجاء الغرفة فجأة بصوت
أحد العساكر يصيح فيه بأن يعتدل ،ولا يسند أرسه إلى الحائط.
تمتم آسر بصوت خافت ،وقال :حسبي الله ونعم الوكيل ،وكانت تلك الكلمات إيذانا بوابل من أنغام السياط
العنيفة على ظهر آسر ،وكل أنحاء جسده ،تلك السياط التي لم تتوقف حتى أوقعته أرضا ،وبرغم وقوعه
على الأرض لم يتوقف العساكر عن الركل وال ُسباب ،حتى فقد آسر وعيه ،ولم يتركوه بعدها رحمة به -
معاذ الله -فليس لهذه الكلمة معنى ها ُهنا ،فقوالب الطوب لذلك المبني البغيض تعرف ذلك،وأرضياته
الخرسانية الخشنة شاهدة على ذلك ،وحتى جزيئات الهواء المنعزلة عن العالم تُقُّر بذلك ،بل تركوه
انصياعا لأمر الضابط الذي وعدهم بمزيد من الحفلات التعذيبية القادمة ،قائلا:
-اتركوه ،فالمو ُت رحمة له.
إن هذا الجهاز أصلا ليس هدفه أن يوصلك إلى الموت ،بل هدفه أن يجعلك تتمنى الموت فلا تجده.
لم ُيص ِّل آسر طوال اليوم ،لم يدرك أساسا موعد الصلوات ،وهل عليه أن يصلي ُظه ار أم عشاء؟ لم يعرف
أبدا ،وكيف له أن يتوضأ في ذلك المكان الدنس؟ بل من سيسمح له بأن يتي ّمم؟ ومن سيفك قيده ليكبر
تكبيرة الإح ارم.
65
مسيلة للدموع