Page 57 - مسيلة للدموع
P. 57

‫كانت تالا خائفة‪ ،‬لكنها كانت ُمنهكة إلى الدرجة التي جعلتها تنشغل بالتعب عن الخوف‪ .‬جلست في أحد‬
      ‫أركان الزن ازنة محاولة الجلوس عند أبعد نقطة منالجنائيات‪ ،‬ولكن كيف ذلك‪ ،‬وأبعد نقطة في تلك الزن ازنة‬

                                              ‫قريبة؟ فمساحة الزن ازنة كلها لا تتجاوز (‪ 5‬أمتار في ‪ 4‬أمتار)‪.‬‬
      ‫التصقت بالحائط الأسمنتي‪ ،‬تمنت أن لو كانت بخا ار ينساب بين أسلاك شباك السجن الحديدية وتتحرر‪،‬‬

                                      ‫أو بركة صغيرة من الماء يمتصها الجدار وتعبر من خلاله إلى الخارج‪.‬‬
      ‫بدأت في توبيخ نفسها على تلك المبالغة في الخيال البعيد تماما عن الواقع‪« :‬كفاكي عتها وغباء يا‬

                                                      ‫تالا‪،‬استفيقي‪ ،‬إن ِك الآن في السجن‪ ،‬ألا ترين الواقع؟»‪.‬‬
      ‫ولكنها سرعان ما أسكتت صوت التوبيخ الذي بداخلها‪ ،‬إن العالم كله من حولها قا ٍس جدا‪ ،‬أتكون قاسية‬
      ‫على نفسها هي أيضا؟ أتقتل خيالها وتُخرسه‪ ،‬وهو المنفذ الوحيد الذي تعيش فيه بحرية بعيدا عن قيود‬

                                                                                       ‫الواقع المقيتة تلك؟‬
      ‫حاولت أن تتجاهل حديث الجنائيات عنها‪ ،‬وأن تغمض عينيها وتنام‪ ،‬ولكنها كلما أغمضت عينيها ُيعرض‬
      ‫الشريط نفسه من جديد‪ ،‬أحداث اليوم بالمشاهد نفسها‪ ،‬فتحت عينيها سري ُعا محاولة منع تسلل تلك المشاهد‬

                                         ‫أمام ناظريها من جديد‪ ،‬تناجي الله‪« :‬ماذا أفعل يارب؟ ما الحيلة؟»‪.‬‬
      ‫وبين الص ارع الداخلي والخارجي‪ ،‬وبين مشاهد الواقع ومشاهد الذاكرة‪ ،‬حيثما تدير عينيها أو تُغمضهما ترى‬
      ‫تلك المشاهد المؤلمة‪ ،‬لم تجد تلك العينان الطفوليتان مهربا سوى البكاء‪ ،‬عسى أن يتساقط بعض الألم مع‬

                                                                                                 ‫الدموع‪.‬‬

‫‪57‬‬

                                                                                            ‫مسيلة للدموع‬
   52   53   54   55   56   57   58   59   60   61   62