Page 17 - m
P. 17

‫افتتاحية ‪1 5‬‬

‫للدين وك َّفروا من لا يؤمن بها أو يختلف مع‬           ‫الاختلاف وليس الاتفاق‪ ،‬ومنهجي في هذه‬
                             ‫استنتاجاتها!‬             ‫القراءة (الثقافية لا الفقهية) هو أن وجود‬
                                                   ‫قصة أو خبر مشكوك في صحته ُيفقد الكتاب‬
          ‫تشكيل القرآن‬                             ‫الذي ورد فيه حجيته كمرجع يمكن أن نأخذ‬
                                                   ‫عنه‪ ،‬لأن وجود خبر مكذوب دليل على فساد‬
  ‫م َّر شكل القرآن الحالي بعدة مراحل‪ ،‬أولها‬            ‫المنطق‪ ،‬ولو أن هذه القصة أو ذلك الخبر‬
  ‫مرحلة الجمع‪ ،‬وسأرجئها قلي ًل‪ ،‬ثم مرحلة‬            ‫تعلَّقا بأمر من أمور الدين والعقيدة‪ ،‬فيكون‬
  ‫التشكيل والتنقيط‪ ،‬أو الن ْقط‪ ،‬وهذه الأخيرة‬
                                                              ‫الأولى عدم الاعتداد بالمرجع كله‪.‬‬
                    ‫ُوضعت على مرحلتين‪:‬‬                ‫ما يهمني ‪-‬كذلك‪ -‬هو قبول الأولين مبدأ‬
‫المرحلة الأولى‪ :‬ما قيل إن عليًّا بن أبي طالب‬          ‫أن الشيطان يملي على الأنبياء‪ ،‬استنا ًدا إلى‬
                                                     ‫آية سورة الحج “وما أرسلنا من قبلك من‬
    ‫ندب أبا الأسود الدؤلي ليشكل الحروف‪،‬‬            ‫ر ُسو ٍل ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطا ُن في‬
   ‫أو يضبط نطقها «وذلك لمَّا فشا اللحن في‬            ‫أُمنيته”‪ ،‬و(تمنى) بمعنى تلا أو قرأ‪ ،‬وألقى‬
   ‫قراءة القرآن الكريم؛ حيث فسدت ألسن‬              ‫الشيطان في أمنيته أي وضع على لسانه وهو‬
    ‫الناس‪ ،‬وكثر الداخلون في الإسلام من‬               ‫يقرأ‪ ،‬بمعنى أن (النبي) أو (الرسول) يردد‬
                                                       ‫كلا ًما أملاه عليه الشيطان باعتباره كلام‬
     ‫غير العرب” (معجم علوم القرآن‪ ،‬دار‬                ‫الله‪ ..‬وأن هذا لا يخص النبي محمد فقط‪،‬‬
  ‫القلم‪ ،‬دمشق‪ ،‬إبراهيم محمد الجرمي‪ ،‬ط‪،1‬‬               ‫بل كل الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله‬
‫‪1422‬هـ‪ ،‬ص‪ .)295‬ولكي ينجز أبو الأسود‬
  ‫هذه المهمة الصعبة‪ ،‬وقد كانت لديه موهبة‬                                           ‫لأقوامهم!‬
‫كبيرة في اللغة وضوابطها‪ :‬اختار “رج ًل من‬             ‫وفي تفسير القرطبي «قال ابن عطية‪ :‬وجاء‬
   ‫عبد القيس وقال له‪ :‬خذ المصحف وص ْب ًغا‬
 ‫يخالف لونه لون مداد المصحف‪ ،‬فإذا فتح ُت‬               ‫عن ابن عباس أنه كان يقرأ (وما أرسلنا‬
‫شفت َّي فانق ْط نقط ًة واحد ًة فوق الحرف‪ ،‬وإذا‬        ‫من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث)‬
   ‫ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف‬               ‫‪ ...‬قال مسلمة‪ :‬فوجدنا المحدثين معتصمين‬
‫‪-‬أي‪ :‬أمامه‪ ،-‬وإذا كسرتها فاجعل النقطة في‬
   ‫أسفله‪ ،‬فإذا ا ْت َب ْع ُت شيئًا من هذه الحركات‬        ‫بالنبوة ‪-‬على قراءة ابن عباس‪ -‬لأنهم‬
   ‫غنَّة (يعني التنوين) فانقط نقطتين”‪( .‬أبو‬         ‫تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خطرات‪،‬‬
 ‫بكر محمد بن القاسم ابن الأنباري‪ ،‬إيضاح‬            ‫ونطقوا بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا‬

     ‫الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل‪،‬‬               ‫وعصموا فيما نطقوا؛ كعمر بن الخطاب‬
            ‫المقدمة‪ ،‬المكتبة الشاملة‪ ،‬ص‪)39‬‬            ‫في قصة سارية‪ ،‬وما تكلم به من البراهين‬
                                                     ‫العالية”‪ .‬و”المحدث هو الذي يوحى إليه في‬
   ‫أبو الأسود الدؤلي ولد في الحجاز عام ‪16‬‬            ‫نومه؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي”‪ ،‬وهو الأمر‬
 ‫ق‪.‬هـ‪603 -‬م‪ ،‬أي أنه كان صبيًّا ياف ًعا وقت‬         ‫الذي يشير إلى أن مفهوم (النبوة) لم يكن في‬
  ‫الهجرة‪ ،‬وكان رج ًل وقت وفاة النبي‪ ،‬لكنه‬
                                                                     ‫زمانهم كما نعرفها الآن‪.‬‬
  ‫لم يقابله رغم دخوله في الإسلام‪ ،‬و ُع َّد من‬            ‫والزيادة التي أضافها ابن عباس (ولا‬
‫التابعين‪ ،‬وكان من أشياع عليٍّ ابن أبي طالب‪،‬‬            ‫محدث) تفتح الباب كذلك أمام موضوع‬
                                                      ‫الإحكام‪ ،‬ومدى معرفة الصحابة بالقرآن‪،‬‬
   ‫وحضر معه موقعة الجمل‪ .‬فو َّله عل ٌّي على‬          ‫وتفسيره‪ ،‬وكل تلك (العلوم) التي يدرسها‬
 ‫البصرة‪ ،‬وتوفي فيها بالطاعون عام ‪69‬هـ‪-‬‬                 ‫ناس هذا الزمان من حديث وفقه وعقيدة‬
  ‫‪688‬م وعمره (‪ )85‬عا ًما‪ ،‬وكان لقبه «ملك‬               ‫وعلم الرجال والجرح والتعديل والناسخ‬
                                                    ‫والمنسوخ‪ ،‬وكل تلك المعارف التي أضافوها‬
                                  ‫النحو»‪.‬‬
      ‫مما عرضت فإن التشكيل الذي أدخله‬
   12   13   14   15   16   17   18   19   20   21   22