Page 62 - m
P. 62
العـدد 57 60
سبتمبر ٢٠٢3
الأصائص التي كانت الورود بألوانها المختلفة ذاته ،بل هو الخوف من الغرق الذي يسببه الماء.
تطل منها مانحة الرونق والجمال للناظرين.. لو كان خوف الذات من الماء في ذاته لامتنعت عنه
ومن يومها أصابني رهاب آخر ،رهاب الأصص واستغنت عن شربه أو الاستحمام به أو استعماله
التي في حوافي النوافذ [ ]..صرت أرقب النوافذ لأي غرض كيفما كان .ما الرهاب هنا إلا خوف من
والشرفات التي بها أصص .صرت ،على الرغم الغرق ،وما الخوف من الغرق إلا خوف من الموت
اختنا ًقا ،نتيجة غريزة فطرية مؤداها كره الموت،
مني ،أمشي لسنوات طويلة وسط الشوارع الذي يقتضي الابتعاد والنفور ،وحب الحياة الذي
أزاحم السيارات وأترك الأرصفة الفارغة خو ًفا
يقتضي التمسك والتعلق الشديد .إنه ابتعاد عن
من مصير جواد .ولم يصر سلوكي عاد ًّيا إلا الموت وتمسك بالحياة .هكذا ،تتضح ،شيئًا فشيئًا،
حين قطنت بالمحمدية حيث ناد ًرا ما يمشي، شدة تعلق الذات بموضوعها (الحياة) وشدة كرهها
فيها ،أحد فوق الطوار»(.)9 للموضوع المضاد (الموت) .وإذا كان الماء مصدر
لماذا لا يمشي أهل المحمدية فوق الطوار إلا ناد ًرا؟ حياة لكل الأشياء ،فإنه ،والحال هذه ،لا يشكل إلا
هل لأنهم مصابون برهاب جماعي له صلة ذا ًتا مضادة تهدد الذات بالموت.
بالطوار؟ أم يتعلق الأمر بظاهرة تميزهم؟ وماذا لا يتعلق الأمر هنا بحالة غرم .لأن الذات المضادة
كان مصير جواد يا ترى؟ أهو الموت أم شيء آخر؟
يكتنف هذا المصير غموض لأن الذات لم تفصح عنه (الماء) ،التي تهدد الذات بالانفصال ،لا تشكل
بشكل مباشر .إن كل المؤشرات تحيل ،مباشرة، غري ًما ،كونها لا ترغب ،أب ًدا ،في الاستمتاع
إلى الموت (الاختفاء والجمعة الحزينة وقبل ذلك
رحيل خديجة وزوجها) .مع ذلك ،يبقى هامش قليل بموضوع الذات (الحياة) .إنها ذات فاقدة لكافة
للاحتمال .قد يكون الاختفاء رحي ًل إلى مكان آخر، أشكال الإرادة والمعرفة .لذلك ،لا تبني الذات ،كما
تما ًما كرحيل خديجة وزوجها ،وليس إلى العالم
الآخر ،عالم الغيب ،وقد يكون مكو ًثا في المستشفى، هو الأمر في الغيرة ،تصاو ًرا يفضي إلى اتصال
ربما مستشفى الغساني أو ظهر المهراز ،غر ًقا في الذات المضادة بالموضوع ،في شكل فرجة تجمع
غيبوبة طويلة الأمد .وقد يكون مكو ًثا في المنزل بينهما .إنما تبني تصاو ًرا يرمي بها في تخوم العالم
الآخر ،يفضي إلى انفصالها التام عن العالم المعاش،
نتيجة شلل تام. عالم الحياة« :منذ ذلك اليوم أصبت برهاب الماء،
إن الوعي ،هنا ،طفولي بامتياز .ربما لا تدري الذات ولم تعد ،مدة سنوات ،تفارقني صور الموت كلما
رأيت بركة أو س ًّدا أو نه ًرا»(.)7
وفق هذا المعنى ،تتبدى سمات تجاربنا الشعورية،
كونها مصحوبة بإحساس بموقعنا في المكان
والزمان من جهة ،وتحيل ،من جهة أخرى ،إلى ما
وراء ذاتها ،فليس لدينا تجربة معزولة في ذاتها،
إنها تحيل دائ ًما إلى تجارب أخرى وراءها ،كل فكرة
لدينا تذكرنا بأفكار أخرى ،كل مشهد نراه ،كرؤية
الذات للبركة ،يحيل إلى أشياء غير مرئية(.)8
إن الرهاب الثاني ،المتعلق بالأصص ،لم يتشكل
نتيجة تعرض الذات لحادث كما هو الحال في
رهاب الماء .ولكن تشكل خو ًفا من مصير جواد،
الذي تعرض للحادث المروع .فلنقرأ« :في ظهيرة
اليوم الموالي كان الحزن يرون على الزقاق..
كانت جمعة حزينة ..اختفى فيها جواد العزيز،
واختفت الكرة التي كنا نلهو بها ،كما اختفت كل