Page 63 - m
P. 63
61 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
اختلاف فكرتين تبدوان متماثلتين :فكرة الموت ما هو الموت ،خاصة عندما يتعلق الأمر بموت
وفكرة المصير .قد نخاف الموت للحظتها ولما يترتب إنسان آخر .ربما تجهل كل الطقوس الجنائزية ولم
يسبق لها أن حضرت موكب جنازة ،وربما لا تمتلك
عنها من فراق وألم ،مثلما «يبدو شني ًعا أن نفكر أدنى فكرة عن ذلك الانتقال من عالم مرئي معلوم
أنه حين يفنى جسمنا سنكف عن الوجود ،وحتى
في لحظة الشجاعة الكبرى التي نقبل بها انعدامنا إلى عالم مجهول ،ولا علم لها بانفصال الروح عن
في المستقبل ،يظل من الصعب ج ًّدا علينا أن نقبل الجسد .لهذا السبب ،يختزل الموت ،وفق هذا الوعي
بالانقراض النهائي للناس الذين نحبهم بعمق»(.)11
إن فكرة الموت تجعلنا نلتفت ،أكثر ،إلى الوراء دون الطفولي ،في الاختفاء ،الذي قد يصاحبه اعتقاد
أن نفكر في المصير الذي ينتظرنا بعد هذا الموت. بالعودة ،ويدخل الذات في حالة انتظار أبدي..
بينما فكرة المصير تجعلنا ننظر أمامنا غير مكترثين (كم ساد اعتقادنا ،ونحن أطفال ،بأن الذين ماتوا
بما سيحدث بعد هذا الموت في عالم الحياة .نكون
مشدودين إلى الأمام ،لا إلى الخلف ،إلى كل ما يمكن سيعودون في يوم من الأيام).
لكن ،في رهاب الماء ،صرحت الذات بمعرفتها
حدوثه هنالك في عالم الغيب. للموت« :أنا الطفل الغر الذي يعرف الموت
لنعقد مقارنة بين الرهابين :الأول والثاني .في والغرق ولا يعرف السباحة»( .)10يطرح هذا
رهاب الماء يتجه الخوف نحو الأسفل والباطن، الكلام التبا ًسا زمنيًّا .ما الرهاب الأول وما الرهاب
نحو عمق الأنهار والسدود والبرك .بينما يتجه، الثاني وفق الترتيب الزمني للأحداث؟ الرهاب
في رهاب الأصص ،نحو الأعلى .ثمة ،إذن ،رهاب الأول ،رهاب الماء ،كان في سن الثامنة ،لكن لا
مزدوج توجد فيه الذات ،على السطح ،مشدودة ندري متى كان الرهاب الثاني ،رهاب الأصص؟ لا
نحو اتجاهين :أعلى وأسفل .ارتبط رهاب الماء ،وف ًقا يوجد مؤشر زمني دقيق يحيل إلى زمن هذا الرهاب
لما سبق ذكره ،بحادث كانت الذات ضحيته ،بينما كي نقارنه بزمن الرهاب الأول (نقصد ،بالتحديد،
ارتبط رهاب الأصص بحادث كان الآخر (جواد) زمن الحادث) .لذلك ،في غياب هذا المؤشر ،يمكن
ضحيته .في الرهاب الأول أفصحت الذات عن الاطمئنان إلى خطية النص .من المحتمل أن يحتل
خوفها من الموت ،بينما لم تفصح عنه في الرهاب رهاب الماء المرتبة الثانية ،وف ًقا لزمن الأحداث كما
الثاني ،فتركته مجهو ًل تما ًما كمصير جواد. يفترض أنها حدثت في الواقع ،بعد رهاب الأصص.
إن للرهاب الأول مآ ًل مثلما للرهاب الثاني؛ مآل غير أن الذات ،بع ِّدها شخصية استذكارية ،استدعته
حرمان .في الرهاب الأول تحرم الذات من الفضاء من الذاكرة ،ذاكرة الطفولة ،كرهاب استهلالي ،ربما
المائي ومن الاستمتاع برؤية الأنهار والسدود، لأن حادث الغرق ،الذي سبَّب الرهاب ،ارتبط بهذه
وفي الرهاب الثاني تحرم من السير على الأرصفة الذات ،عكس حادث الأصيص الذي سبَّب الرهاب
الفارغة تحت النوافذ ،تزاحم السيارات معرضة الثاني ،والذي كان الآخر (جواد) ضحيته ،وربما
نفسها لخطر ربما هو أعمق من ذاك .وهكذا، لأنه خلف أث ًرا أعمق من ذلك الرهاب .هكذا ،كان
بفعل الرهاب ،تصير الذات محرومة من الفضاء، الاحتفاء ،في رهاب الماء ،بوصفه رهاب ارتكاز،
ويصير الفضاء محرو ًما من الذات .من ثم ،فإن بمقولة «أنا لأجل أنا» ،قبل انحلال مقولة «أنا
هذا الحرص الشديد يؤدي ،حت ًما ،بالذات الهوية،
إلى الفقدان والحرمان .بمعنى آخر :شدة التعلق لأجل أنا والآخر» في الرهاب الموالي.
بالشيء والحرص عليه تؤدي إلى فقدانه والحرمان أليس الموت ذاته مصي ًرا مجهو ًل يكتنفه الغموض؟
بلى .وفق ذلك ،لا يصير الخوف من الموت مصد ًرا
منه.
ناد ًرا ما نرى س ًّدا أو نه ًرا اللهم إذا كنا نعيش للقلق ،إنما مصدره الخوف من المصير المجهول،
بالقرب منه ،أو قدر لنا السفر إلى أماكن بها أنهار ذلك بخلاف الحالة الأولى ،المتعلقة برهاب الماء،
أو سدود .لذلك ،فإن الإحساس برهاب الماء لا يأتي التي تم الإفصاح فيها عن الموت كما لو كان مصي ًرا
معلو ًما .هنالك ،إ ًذا ،خوفان .أو لنقل :هنالك رهابان
يبدوان متماثلين بيد أنهما مختلفان .ومر ُّد ذلك