Page 127 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 127

‫أجمل ما في الرواية هي تلك النماذج‬                   ‫بجامعة أثينا لأدرس‬        ‫ق َّرر ُت أن ألتحق‬
                                                      ‫من رحل ٍة ُمضنِ َية‪ ،‬كن ُت‬  ‫التجارة‪ ،‬ويا لها‬
        ‫البشرية الرائعة‪ .‬هنالك عدد كبير‬
                                                      ‫أعمل وأدرس ليل نهار لأتخ َّرج بشهادتي‬
     ‫من الشخصيات تلعب أدواًرا متفاوتة‬                 ‫التي أحملها بجلدي ولحمي»‪( .‬الرواية–‬

         ‫الأهمية تتحرك على أديم الرواية‬                                           ‫ص‪)17‬‬

     ‫بأريحيات متفاوتة أي ًضا‪ ،‬وتثيرنا هذه‬             ‫هذا الجوار هو الذي يختصر طريقته‬

     ‫"البورتريهات" البشرية بشكل غريب‬                  ‫الروائي والناقد التونسي الكبير صلاح‬

    ‫لأسباب عديدة‪ ،‬على رأسها ‪-‬فيما نراه‪-‬‬               ‫الدين بوجاه في كتابه «مقالة في الروائية»‬

      ‫النفحة الشعرية التي تمزج الروائي‬                ‫حينما يقول حول غزو المذهب الشعري‬

                      ‫بالشعري بالإنساني‬               ‫للرواية ما مفاده إن هذه النزعة هي نوع‬

‫الآخر‪ ،‬فلربما لو أنك أبصر َته هانت َمش َّقة الرحلة‪.‬‬   ‫من الانتقال البارع من «جمالية الحدث‬
   ‫ُيخيَّل إل َّي أن هذا البحر الواسع الغامض يمتلئ‬
                                                      ‫إلى جمالية الكتابة»‪( .‬مقالة في الروائية‪-‬‬
 ‫عن آخره كل يوم بفضل دموع الراحلين‪ ،‬يتغ َّذى‬
   ‫عـلـى مآسيهم ومخاوفهم‪ ،‬البحر سجني منذ‬              ‫ص‪ )46‬أي أن نتيجة الهاجس المسير‬
    ‫قدومي إلى هذه الدنيا‪ ،‬الكائن الذي يرفض أن‬
                                                      ‫لرواية مثل كوتسيكا ليس نقل أخبار‬
 ‫يعاهد ال َبشر عـلـى أما ٍن ُمط َل ٍق حتى بعد أن عقد‬
             ‫هدنته مع الرب»‪( .‬الرواية‪ -‬ص‪)15‬‬           ‫العائلة الغريبة بقدر ما هو النظر إلى‬

  ‫هذا النوع من التأمل الذي يبدو أنه يع ّطل سير‬        ‫الرواية كلها كجملة‪ ،‬أو كبيت من الشعر‪ ،‬وكعمل‬
    ‫الأحداث لكي يغرقنا في جو لغوي باعث لكثير‬
  ‫من التأمل الذي من شأنه تأجيج الجانب الدلالي‬         ‫له مراكز ثقل جمالية تقترب بالسرد المتسلسل إلى‬
    ‫للرواية من خلال الفضاء الدلالي لا من خلال‬
  ‫الفضاء السردي‪ .‬وفي هذا الإطار يقول الروائي‬          ‫دوائر الصياغة «الشعرية»‪.‬‬
 ‫السوري الكبير «نبيل سليمان» معتر ًفا بالإضافة‬
    ‫الكبيرة للنزوع صوب الشعر في الرواية أو ما‬         ‫الرواية الشعرية بهذا المعنى تعمل على مستويين‬
    ‫سماه فيصل الأحمر بفتنة الشعر في الرواية‪:‬‬
                                                      ‫نلحظهما عند غادة العبسي‪ :‬صقل لغة القص‬
       ‫«لقد وصل وهم الشعرية في اللغة الروائية‬
    ‫إلى غاية الإصاتة وهزج الألفاظ‪ ،‬وغنة الغناء‪،‬‬       ‫والعمل على المقاطع واللقطات من جهة‪ ،‬ومن‬
  ‫‪-‬والتعابير على التوالي هي لفريال غزول‪ ،‬إدوار‬
 ‫الخراط‪ ،‬حلمي سالم‪ ،-‬إلى الكتابة الإشراقية‪ ،‬إلى‬       ‫الجهة المقابلة التعالي البلاغي بلغة النص؛ أي‬
 ‫عناق الصوفية والماركسية‪ ،‬وجر ذلك ما جر على‬
‫الكتابة الروائية من استلاب لغوي وتقني‪ ،‬بدعوى‬          ‫العمل على انسجام المقاطع على يد‪ ،‬والاهتمام على‬
   ‫الغوص في الدخائل‪ ،‬بدعوى التخييل والحلمية‬
   ‫والأسطرة‪ .‬وفي الآن نفسه‪ ،‬ليس لمنكر أن ينكر‬         ‫اليد الثانية بوحدات صغيرة هي الفقرات والجمل‬

                                                      ‫قوامها الصقل وشعريتها كامنة في بلاغة الشعر‪.‬‬

                                                      ‫وفي ذلك يقول بوجاه‪« :‬إننا إزاء منظومتين تأسر‬

                                                      ‫كل منهما الأخرى إذ تبطنها مستأثرة بجماليتها‪:‬‬

                                                      ‫الفعلي والحاف م ًعا‪ .‬هذه «لغة النص» تجوس‬
                                                      ‫عبر»السردي» فتطويه طيًّا وتزعم حيازة متاحه‬
                                                      ‫والممكن‪ .‬وهذه «لغة القص» تفيض على اللغوي‬

                                                      ‫وترفع راية الحضور المطلق ملغية كل ما عداها‪.‬‬

                                                      ‫فهل من سراط عبور؟»‪( .‬مقالة في الروائية‪-‬‬

                                                                                  ‫ص‪)64‬‬

                                                      ‫تأكي ًدا تقول غادة العبسي على لسان بطلتها التي‬
                                                      ‫تبدأ رحلتها راكبة البحر‪:‬‬

                                                      ‫«لو أن للمدن العظيمة خرائط بارزة منقوشة فوق‬

                                                                                  ‫الماء!‬
                                                                  ‫فمن تبعها وصل إليها ُمط َمئِنًّا!‬
                                                      ‫أسوأ شيء في الترحال أنك لا ترى الشاطئ‬
   122   123   124   125   126   127   128   129   130   131   132