Page 27 - merit 51
P. 27
25 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
في البكاء صفات إنسانية ،لكن المجتمع جنَّسها تب ًعا لمصالح الرجال فهي امرأة ناشز منبوذة
وألحقها بالنساء ،وبذلك بقي للنساء حق التنفيس اجتماعيًّا .ولأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه،
فإن رفضه أو نبذه يمثل أزمة حقيقية بالنسبة له،
عن مشاعرهن بالبكاء وحق الإحساس بالخوف فيسعى للقبول الاجتماعي مضحيًا بقيمه وحقوقه،
والعوز والاحتياج إلى الحماية ،ولكنه عزز لديهن فتفقد المرأة حقها في الحياة ،ويفقد الرجل حقه
في شريك حي متفاعل وليس مجرد أداة لخدمته
أن ذلك ناتج عن ضعفهن ونقص قدري فيهن، ولإنجاب أطفاله ،تبكي المرأة مرارة لقسوة زوجها
وحرم الرجال ذلك الحق حتى لا يوسمن بالضعف أو أخيها أو أبيها أو إذا مرت بأي موقف صعب أو
والنقص كالنساء .تعلم ميلاد على يد الأنثى وصبغ مؤثر ،ويفقد الرجل حقه في البكاء ،يجبر المجتمع
إصبعه على يديها ،ولكنه سعى بتشجيع من والده المرأة على أن ترضى بحياتها ،وإن كانت تحت سلطة
رجل مارس شتى الموبقات ،ويعطي الرجل سكينًا
إلى البحث عن هوية مغايرة ومتعالية في المقام ليطعنها إن ساوره مجرد شك حيالها .وقد يطول
الأول. بنا المقام إذا تتبعنا مختلف القيم الاجتماعية القامعة
للنساء والرجال .وقد يكفينا مؤونة ذلك استكشاف
وكذلك كانت أمه تسهم في تحديد معالم هذه الهوية جانب من تحولات شخصية الرجل وإعادة تشكيلها
حين كانت تمنعه من أن يساعدها في أداء مهام بما يتوافق مع المجتمع الذكوري من خلال التركيز
على شخصية ميلاد بطل رواية «خبز على طاولة
المنزل «حتى عندما كانت تجدني أغسل الأواني – الخال ميلاد» 2022للكاتب الليبي محمد النعاس.
قبل الزواج -في مطبخها كانت تطردني من المطبخ،
وتقول لي إنني رجل ،والرجل لا يجدر به أن يمسك ميلاد من الإنسانية إلى الذكورية
سوى المسحاة والخباشة ،الرجل يزرع ويحصد تتنامى شخصية ميلاد في الرواية ممثلة ما يتعرض
والمرأة تطبخ ،الرجل يبني ويعمر والمرأة تنظف ما له الرجل من إعادة تشكيل قهري لهويته؛ لتصبح
بناه ،هذا هو الاتفاق الضمني بين الجنسين ،وأي
الرجولة قرينة السمات الذكورية المتعالية ،وتتراجع
خلل يجب إصلاحه( .ص.)31 ،30 القيم الإنسانية ،وخاصة تجاه شريكته في الحياة،
وعلى الرغم من ذلك ظلت فطرة ميلاد الإنسانية إلى أسفل منظومة قيمه ،فلا يرى فيها إلا أنثى بلا
البسيطة وإحساسه بأمه وأخواته ينتصران على ما حقوق ،وكأنها سخرت له كما سخر له الكون.
عداهما ،إلا أن أكثر ما كان يؤرقه هو شعوره بأنه
قد خذل أباه ،وأنه لم يكن الرجل الذي كان عليه أن نشأ ميلاد بين أخواته البنات يأنس إليهن ،ويقضي
يكونه .ولم يكن ميلاد يفطن حتى ذلك الحين إلى معهن أوقاته بين لهو ولعب ومسامرة ،ويشاركهن
أن رفض أبيه له سيتبعه رفض المجتمع مع مرور كل ما يقمن به ،كما كان مستودع أسرارهن ،وهنا
الزمن ،فتمنى لو أنجب أبوه ول ًدا آخر ليرشده
ويحميه ظنًّا منه أن ذلك سيحل مشكلته ومشكلة يواجه ميلاد الرفض الأول من أبيه؛ إذ يصفعه
أبيه أي ًضا .وبذلك بدا ميلاد مستسل ًما لهويته التى حين يراه قد خضب إصبعه بالحناء ،وحين يعلم
هو عليها مدر ًكا اختلافه عن غيره ،يتأكد لديه هذا أنه يشتري لأخواته أشياءهن الخاصة ،ثم ينهاه
الاختلاف حين يهرب من الأفعال الصبيانية الشائنة عن البقاء في المنزل معهن ،ويطلب منه أن يكون
التي كان يدفعه العبسي إلى ارتكابها كمطاردة أ ًخا حار ًسا وليس أ ًخا ودو ًدا ومخال ًطا لأخواته.
الفتيات ومضايقتهن ،إلى أخواته اللاتي طالما أحببنه ثم تؤدي اللغة دورها الخطير في تجسيد هويات
متباينة بجمل شديدة البساطة ،حين ينهاه أبوه
واعتنين به. أن «يبكي مثل الفتيات» أو أن يعبر عن خوفه من
ظل ميلاد مدفو ًعا من أبيه وأصدقائه ومحيطه
الاجتماعي لأن يكون رج ًل مثل بقية الرجال في شيء ما «كالفتيات» ،رغم أن الخوف والرغبة
مجتمعه يحمل سماتهم نفسها ،ولكنه كان ذا
هوية فريدة تعامل معها لفترة على أنها قدره ،كان
يتصرف وف ًقا لما تمليه عليه فطرته ،ولكنه كان
يشعر بالدونية نتيجة ما يلقاه من رفض اجتماعي،