Page 114 - merit 54
P. 114

‫العـدد ‪54‬‬   ‫‪112‬‬

                                                    ‫يونيو ‪٢٠٢3‬‬

     ‫(الوضعية الاتكالية)؛ فيلوذ بقوى تحميه عبر‬        ‫فار ًسا لحبيبته جميلة‪ ،‬وظل حائ ًرا بين التخلص‬
‫(النكوص الطفلي) الذي يعوض له واقعيًّا أو خياليًّا‬        ‫من قيود أمه وحرصها بعد وفاة والده؛ وبين‬

  ‫بعض ضعفه‪ ،‬تمتزج في تلك الوضعية دلالة الأب‬         ‫(التوحد) بشخصيته ‪-‬أى الأب‪ ،-‬فها هى أمه تقول‬
    ‫(الولي) الذي يمثل ملا ًذا‪ ،‬وصورة الأم المعطاءة‬    ‫له «البس بدلة أبوك»! تبرز هنا الصراعات التي‬
                       ‫التي تدلل بصفة مستمرة‪.‬‬         ‫سيطرت عليه؛ فإذا بالابن المُتعلق بعائلته قد َح َّمل‬
                                                        ‫نفسه في ذات الوقت مسئوليات نفسية جسيمة‬
‫اتضح المعنى السياسي للتسلط في شخصية مدكور‬                ‫تجعل منه ‪-‬دون أن يشعر‪ -‬عد ًوا لهم‪ ،‬يمكننا‬
 ‫ضابط البوليس الذي تزوج ليلى ابنة رضوان بك‪،‬‬         ‫تفسير ذلك؛ لأن فكرة المحبة كما يفهمها (الشعور)‬
                                                      ‫تتنافى مع الأنانية المطلقة‪ ،‬وهي مبدأ (اللاشعور)‬
  ‫وأخذ رضيعها وحرمها منه عندما وجد رسائلها‬
‫الغرامية التي كانت تكتبها قبل الزواج‪ ،‬والذي ورد‬     ‫وهذه النزعة تس َّمى (التناقض الوجداني)؛ فاغتراب‬
                                                      ‫البطل تم من خلال كبت مشاعر الإحباط والعجز‬
  ‫عنه في الرواية أنه «يحش الثورجية مثل أعواد‬                                 ‫لتقليل الألم الناتج عنها‪.‬‬
    ‫البرسيم»‪ ،‬ثم تأتي ُسلطة الخولي حسنين على‬
                                                    ‫أو ًل‪ :‬الخصاء الفكري وتنميط الوعي‬
  ‫أهل البلد بعد موت رضوان بك‪ ،‬والذي أصر على‬
 ‫دفنه تحت شجرة اللبخ التي عاصرت الأب الكبير‬            ‫التنميط المستمر لوعى الإنسان يجعل منه وعيًا‬
 ‫نصير الدين البلبيسي‪ ،‬وإقامة مقام له كولي من‬         ‫واه ًما وزائ ًفا‪ ،‬كما في شخصية فارس بك؛ فالقهر‬
                                                       ‫يترتب عليه انعدام الشعور بالأمن‪ ،‬والعجز أمام‬
   ‫أولياء الله الصالحين‪ ،‬كنو ٍع من رد الجميل لأنه‬
    ‫‪-‬على حسب قوله‪« -‬أنقذه من السجن والفقر‬              ‫المصير‪ ،‬ربما لذلك لاحظنا استخدام لغة السوط‬
 ‫والضياع»‪ ،‬ويتذكر الخولي حسنين رهبته عندما‬          ‫القمعي كبديل للفهم والحوار‪ ،‬تج َّل ذلك في معاناته‬
‫رأى رضوان بك البلبيسي لأول مرة وهو يتسلق‬
     ‫سياج الحديقة ليسرق السرايا‪« ،‬فبد ًل من أن‬             ‫من الشعور باالعجز أمام المستقبل‪ ،‬وتعامل‬
   ‫يقدمه للشرطة عفا عنه‪ ،‬وأطعمه وكساه‪ ،‬ثم‬            ‫رضوان بك البلبيسي مع الفلاحين‪ ،‬فعندما يختل‬
     ‫منحه عم ًل»‪ ،‬وتفسير ذلك يرجع إلى أن وعى‬
 ‫الإنسان يتفتح ‪-‬أول ما يتفتح‪ -‬على الجسد‪ ،‬ومن‬           ‫التوازن بين (السيد) والإنسان (المقهور)‪ ،‬يصل‬
  ‫خلاله يألف الحياة‪ ،‬لكن ُمعضلة الإنسان الكبرى‬         ‫هذا الاختلال ح ًّدا تتحول معه العلاقة إلى انعدام‬
                                                     ‫الاعتراف بها وبقيمتها؛ ذلك أنه بمقدار ما تتضخم‬
      ‫تكمن في الموت؛ فحين يحل الموت تنقلب الآية‬
‫ليزول الجسد ويتلاشى‪ ،‬فيتشبث الإنسان بالنفس‬               ‫(ذات المتسلط) تفقد (ذات التابع) أهميتها؛ لأن‬
                                                    ‫علاقة القمع تحتاج باستمرار إلى تغذية (نرجسية)‬
    ‫أو الروح طم ًعا في الخلود‪ ،‬وجسد رضوان بك‬         ‫السيد وتضخم أناه‪ ،‬لذلك نجد أنه حتَّى وإن كانت‬
  ‫البلبيسي في الرواية جسد ُمتخيل يحضر باللغة‬
                                                      ‫هناك محاولات تغيرية في شكل (تمرد) تبرز من‬
                                 ‫حضو ًرا طاغيًا‪.‬‬    ‫آن إلى آخر‪ ،‬إلا أنها ُتطمس بسرعة نظ ًرا لشدة قوى‬

   ‫ثان ًيا‪ :‬الحرية الوهمية والاغتراب‬                                                         ‫القمع‪.‬‬
               ‫النفسي‬                                    ‫فإذا اعتبرنا أن (الخصاء الفكري ‪Castration‬‬
                                                       ‫‪ )mentale‬يعاني منه الإنسان المقموع‪ ،‬وبالتالي‬
    ‫(الاغتراب ‪ )Alination‬يعني فقدان القيم والمُثل‬     ‫ُيبدي التردد ويتجنب وضع إمكاناته محل اختبار‬
   ‫الإنسانية‪ ،‬والخضوع لواقع اجتماعي يتحكم في‬              ‫خو ًفا من الفشل‪ ،‬فالمقهور يعيش حالة تهديد‬
‫الإنسان ويستعب ُده‪ ،‬ويعني الشعور بالعزلة‪ ،‬و ُيعبِر‬    ‫دائم‪ ،‬ويعجز عن المجابهة‪ ،‬ويفتقد لطابع السلوك‬
                                                     ‫الاقتحامي‪ ،‬لذلك سرعان ما يفر منسحبًا‪ :‬إما طلبًا‬
      ‫عن حالة اجتماعية نفسية ُيمارس فيها الفرد‬         ‫للسلامة وخو ًفا من العقاب‪ ،‬أو يأ ًسا من إمكانية‬
     ‫انسلاخه عن (الجماعة السيكولوجية) المُحيطه‬        ‫التصدي؛ بالتالي يلجأ ‪-‬كما فعل فارس بك‪ -‬إلى‬
   ‫به‪ ،‬ربما لذلك جاء اسم فارس في الرواية عكس‬
      ‫مدلوله تما ًما‪ ،‬وربما اختارته الكاتبة من باب‬
   109   110   111   112   113   114   115   116   117   118   119