Page 120 - merit 54
P. 120

‫العـدد ‪54‬‬   ‫‪118‬‬

                                                         ‫يونيو ‪٢٠٢3‬‬

 ‫لا حدود لها لكنه كان مترد ًدا في إيذاء ابنه‪ ،‬لأنه لم‬    ‫تارة مقالات عن ضرورة استقلال البلاد‪ ،‬ويشارك‬
 ‫يجده مثله متعجر ًفا وف ًّظا وانانيًّا ليقتله بدم بارد‪.‬‬     ‫في التظاهرات مع غيره من الشباب‪ .‬حين سجن‬
                                                            ‫ذات مرة بسبب المظاهرات‪ ،‬تعاطف مع صيحات‬
      ‫حين وجد همام ورقة لأحد الضباط الإنجليز‬                  ‫غضب وصرخات الموجوعين معه في الزنزانة‪،‬‬
           ‫مكتو ًبا عليها‪« :‬لا أعرف ما الذي تريده‬              ‫وأحس أنه منهم وينتمي إليهم‪« :‬قضى معهم‬
                                                            ‫ساعات أحسها أطول من سنين عمره كله»‪ .‬كما‬
‫إمبراطوريتنا العظمى‪ ،‬لدينا الكثير‪ ..‬لكننا نفكر فقط‬          ‫اعتبر نفسه مسؤو ًل منذ وفاة والده‪ ،‬ألا يتسبب‬
‫بما ليس لدينا»‪ ،‬حرص على الاحتفاظ بها دلي ًل على‬             ‫في ظلم أحد‪ .‬وهكذا يثبت فارس أنه ليس نسخة‬
  ‫إجرام الامبراطورية حتى في حق أبنائها‪« :‬لما إنتم‬
                                                           ‫عن والده‪ ،‬وليس بورجواز ًّيا أو ساذ ًجا‪ ،‬ولا يملك‬
    ‫مظلومين‪ ..‬نبقى إحنا إبه؟»‪ ،‬ما يعني أن روحه‬           ‫طبيعة رخوة ولا متواكلة‪ ،‬بل هو شاب ناضج يملك‬
    ‫الثائرة تدرك أن هذا الاحتلال جائر‪ .‬كان أي ًضا‬
   ‫ينتبه لخوف في أعين أولئك الجنود الذي جعلهم‬                ‫رو ًحا ثورية وحس مسؤولية كبير اتجاه بلده‪.‬‬
     ‫ييحرصون على المشي في جماعات‪« ..‬يعرفون‬
   ‫انهم ظالمون»‪ ،‬وأصبح ينقض عليهم ويضربهم‪،‬‬                              ‫الشرير‪:‬‬
   ‫ليس فقط للاستيلاء على ممتلكاتهم‪ ،‬بل رغبة في‬              ‫همام ابن مبارز‪ ،‬الحرامي الثائر‬
 ‫رد الظلم‪ .‬شارك في اقتحام بعض أقسام البوليس‬
    ‫وتحرير المعتقلين‪ ،‬وفي تهريب بعض المساجين‪،‬‬               ‫لا يبدو أن القدر قد ترك لهمام أي خيارات حين‬
     ‫كان يرى أغلب عناصر البوليس «مصريين أو‬                     ‫ولد في درب السوالمة لأب كان عد ًّوا لرضوان‬
  ‫بريطانيين» كلاب لا يترددون في إطلاق النار على‬
    ‫المتظاهرين وتلفيق التهم للأبرياء‪ ،‬فاشترك مع‬           ‫البلبيسي‪ ،‬إلا أن يصبح ن َّشا ًل حاق ًدا على كل شيء‪،‬‬
   ‫أولاد البلد في هذا العمل الذي لم يعتبره جريمة‪،‬‬        ‫لايبحث سوى عن الثأر ممن قتل والده‪ ،‬ومن أولئك‬
    ‫كما لم يخطر بباله أن يستخدم لتوصيفه كلمة‬
                                                            ‫الذين تنكروا لأبيه وتركوا جثته للقوارض خو ًفا‬
       ‫«الوطنية»؛ يعرف فقط أنه ساعد أولاد البلد‬           ‫من غضب البيه‪ .‬طبعت تلك المعاناة سلوكه بقسوة‬
     ‫الجدعان‪ .‬لقد كان همام يكره الظلم سواء كان‬            ‫مدهشة‪ .‬كانت تجعله «يضغط أعناق فراخ الحمائم‬
      ‫اسمه مدكور أو ألبرت أو رضوان البلبيسي‪.‬‬                ‫بين أصابعه ويتركها قبيل الاختناق بقليل‪ ،‬يتلذذ‬
                                                         ‫بحرمانه للكلاب من الطعام حتى تكاد تنفق‪ ،‬ويقهقه‬
              ‫الأراجوز‪:‬‬
         ‫فلاح بأخلاق فارس‬                                   ‫عند تألييها بعضها على بعض حتى تقتتل اقتتا ًل‬
                                                         ‫ضار ًيا»‪ ،‬أي ًضا لم ينج من إيذائه أحد من عيال درب‬
‫لم يكن متولي ابن بيه مثل فارس‪ ،‬ولا قو ًّيا «فتوة»‬
   ‫مثل همام‪ .‬التحق بالأزهر‪ ،‬وأبدى حما ًسا كبي ًرا‬                                               ‫السوالمة‪.‬‬
    ‫في البداية للتعلم‪ ،‬لكن المبلغ القليل الذي رصده‬            ‫ومع ذلك‪ ،‬في مقاطع كثيرة‪ ،‬تكشف لنا الكاتبة‬
                                                               ‫الجانب الإنساني لهمام‪ ،‬الذي يحب الاحتفاظ‬
 ‫أهله لهذه المهمة‪ ،‬والذي كان تضحية غير هينة من‬             ‫بذكريات الأشخاص الذين يسرقهم‪ ،‬مثل الأشعار‬
   ‫قوتهم القليل‪ ،‬عجز عن تدبير أمور حياة الطالب‬                ‫والصور‪ ،‬و»سمح لهم بأن يصيروا قس ًما من‬
    ‫الأزهري‪« ،‬ما جعل تمن كوب شاي على المقهى‬              ‫حياته وتعوي ًضا من نوع ما عن وحدته»‪ ،‬وكأن هذا‬
  ‫مجازفة غير محسوبة العواقب»‪ .‬جعل هذا متولي‬                 ‫الطفل اليتيم المسكين الذي ُقتل والده و ُترك تائ ًها‬
    ‫يترك دراسته ساعيًا خلف لقمة عيشه‪ .‬عمل في‬             ‫بلا سند في الحياة يتمنى لنفسه حياة كباقي الناس‬
  ‫المساء د َّقا ًقا لدى أحد العطارين‪ ،‬ثم اشتغل بأحد‬        ‫التي تحمل ذكريات طيبة‪ .‬أي ًضا قرار همام بهجر‬
     ‫الأفران‪ ،‬ثم كاتيًا في ورشة نجارة‪ ،‬ثم مبي ًضا‬          ‫جميلة وتخليه عن خطة إيذائها انتقا ًما من والدها‬
      ‫للنحاس‪ ،‬ثم سرح في الأزقة والحواري يبيع‬              ‫يثبت أن روحه لا يتملكها الشر الخالص‪ ،‬بل تحمل‬
 ‫الفلايات والمناديل وأعواد البخور‪ .‬حلم بأن يكون‬            ‫في ثناياها طيبة كانت ستتحول لخير لولا ما نزل‬
                                                          ‫به منذ طفولته المبكرة‪ .‬ورغم أن كراهيته لرضوان‬
   115   116   117   118   119   120   121   122   123   124   125