Page 45 - merit 54
P. 45

‫‪43‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

       ‫الجمهور‪ ،‬فلم يعد ممكنًا أن تفرق بين موقع‬              ‫تكتب الشعر والغناء)‪ ،‬وهو ما يوضحه المؤلف‬
   ‫المغني من الجمهور‪ ،‬والعكس‪ .‬هذا يؤكد أ َّن هناك‬           ‫ذاته في المبحث الرابع المعنون بـ(أم كلثوم تؤلف‬
 ‫موق ًعا «كلثوميًّا» في الغناء العربي له طابعه ومذاقه‬
                                                             ‫الأطلال)‪ ،‬حيث “انتقت منها‪ ،‬وع َّدلت‪ ،‬وق َّدمت‪،‬‬
                                       ‫الخاص‪.‬‬              ‫وأ َّخرت‪ ،‬واستعانت بقصيدة “الوداع” في تشكيل‬
      ‫ويظهر من ذلك حال المغني‪ /‬المر ِسل في كونه‬             ‫النص الذي قدمته للجمهور”(‪ .)26‬وعماد البرهان‬
   ‫إيجابيًّا أو سلبيًّا‪ ،‬علي ًما وخبي ًرا بحال الجمهور‪/‬‬    ‫على ذلك أطلال أم كلثوم‪ ،‬وأطلال ناجي(‪ .)27‬ولعل‬
       ‫المر َسل إليه عماد الأداء‪ ،‬وكيفية تلقيه النص‬
    ‫الغنائي‪ ،‬وقد عمدت «أم كلثوم» إلى ن ٍّص خاص‬                ‫كلام الدكتور “إبراهيم عبد العزيز” في جعلها‬
  ‫بها‪ ،‬فهي صاحبة رؤية ورسالة‪ ،‬وهو ما وضحه‬                  ‫مؤسسة بلا منازع خير دليل على منظومة التلقي‬
    ‫الدكتور «أحمد يوسف» في قوله‪« :‬إن أم كلثوم‬              ‫لديها‪ ،‬فقد أطلق عليها “المجاز السمعي الغنائي”؛‬
 ‫صاحبة موقف يفرض عليها رؤي ًة تحدد ما تختار‪،‬‬
    ‫وما لا تختار‪ ،‬وتحدد لها متى تقدم هذا النص‪،‬‬                 ‫لما تخلفه من ميتافيزيقا الشجن اللانهائية فى‬
    ‫وكيف تقدم(‪ .)32‬نحن إذن أمام مر ِسل ومر َسل‬           ‫الأغنية العربية‪ ،‬فهي بمثابة (المكلثمات) الكريستال‬
   ‫إليه في الوقت ذاته‪ ،‬فأم كلثوم تأخذ عن الشاعر‪،‬‬          ‫الصوتي الوجودي والروحي المشع على كل جهات‬
     ‫وتعيد تأليفه بما يتناسب مع حال المتلقي‪ ،‬مع‬          ‫حياتنا قوميًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا وثقافيًّا(‪ .)28‬و ِ َل لا؟‬
‫إضفاء عنصر الفاعلية الذي قوامه النشاط والحيوية‬           ‫فـ”صوت أم كلثوم يمثل أبعاده من (‪ )16 :60‬ألف‬
   ‫والتأثير‪« .‬لقد أنطقت أم كلثوم عوالم الصمت فى‬           ‫ذبذبة في الثانية‪ ،‬بينما أقوى صوت يليها ‪ 10‬آلاف‬
‫الشعر العربي‪ ،‬فكشفت عن المسكوت عنه فى الشعر‪،‬‬             ‫ذبذبة في الثانية فقط‪ .‬هذا الصوت الذي عطل المرور‬
‫وأبانت عما هو عاجز عن الإبانة بطبيعته فى تراكيب‬
 ‫الشعر نفسه‪ ،‬أبانت عن ذلك بعبقرية أداء الصوت‪،‬‬                ‫في “حي شبرا” بالقاهرة ساعتين عندما أذعيت‬
     ‫وأثبتت أن قدرات الصوت والموسيقى أعرق في‬               ‫أغنية “أنت عمري” عام ‪ .1964‬هذا الصوت الذي‬
                                                         ‫عبرت عنه مجلة “تايم” الأمريكية بأ َّن هناك شيئين‬
                      ‫الدلالة من حدود الكلم»(‪.)33‬‬
   ‫حصيلة هذا أن أم كلثوم حين تغني تقوم بعملية‬                  ‫لا يتغيران‪ ،‬ولا ينال منهما الزمن‪ ..‬أم كلثوم‪،‬‬
   ‫ترميم للعواطف‪ ،‬يصبح الحب مل ًكا للجميع‪ ،‬ح ٌب‬             ‫والهرم‪ .‬هذا الصوت الذي جعل المنطقة كلها من‬
‫من نوع خاص‪ ،‬يزيد إشراق الصبح اللامع‪ ،‬وآثاره‬                ‫المحيط إلى الخليج جز ًءا واح ًدا‪ ،‬سقطت الحواجز‪،‬‬
                                                           ‫ذابت الحدود‪ ،‬اتحدت الآذان داخل عشرة ملايين‬
      ‫تضيء القمر الطالع‪ .‬حب يجعل النهار أطول‪،‬‬             ‫كيلو متر مربع‪ ،‬فقد أقام صوتها أول سوق عربية‬
   ‫والليل أقصر‪ ،‬والقمر ينير أكثر‪ ،‬والنجوم تصبح‬             ‫مشتركة حين تغني‪ ،‬كل الجمهور يصغي الآذان‪،‬‬
 ‫أجمل وأكبر‪ ،‬والشجر قبل الربيع نراه أخضر‪ .‬لقد‬
 ‫قال «عبد الوهاب»‪« :‬إ َّن صوت أم كلثوم يتميز بأن‬              ‫الحكام والرعايا‪ ،‬الوزير والفقير‪ ،‬راكب الجمل‬
‫قماشه عريض‪ .‬إ َّن فيه جمال القوة‪ ،‬وحلاوة القفلة‪،‬‬             ‫وراكب السيارة‪ ،‬ساكن القصر وساكن الكوخ‪،‬‬

      ‫ورقة الجمال»‪ ،‬وعندما سئلت «أم كلثوم» عن‬                         ‫مشاهد التلفاز ومستمع الراديو‪.)29(..‬‬
  ‫تعليق «عبد الوهاب» هذا‪ ،‬قالت هو رأيه‪ ،‬ولا أحب‬              ‫هذا المجاز السمعي ناتج عن مشاركة فعالة من‬
 ‫أن أتكلم عن نفسي‪ .‬إ َّن نفسي هي أبغض كلمة إلى‬               ‫جمهور يتذوق استبدال أم كلثوم لمطلع قصيدة‬
                                                           ‫«إبراهيم ناجي»‪« :‬يا فؤادي رحم الله الهوى»(‪،)30‬‬
                                     ‫نفسي»(‪.)34‬‬           ‫لكن الجمهور يستعذب غناءها‪« :‬يا فؤادي لا تسل‬
  ‫وقد تكون القصدية لدى المؤلف ظاهرة‪ ،‬وحضور‬               ‫أين الهوى»‪ ،‬وفي قصيدة «ريم على القاع»(‪ )31‬لأحمد‬
‫القصيدة‪ /‬الغناء على المسرح أداء واستجابة كما في‬
 ‫نص «سلوا كؤوس الطلا»‪ ،‬فقد تل َّقته كما فاض به‬                                      ‫شوقي يقول الشاعر‪:‬‬
   ‫“شوقي”‪ ،‬وقد تملَّكته عاطفة الانبهار والإعجاب‬                                  ‫َل َقد َأ َنل ُت َك أُذنا َغي َر وا ِع َي ٍة‬
                                                                            ‫َو ُر َّب ُمن َت ِص ٍت َوال َقل ُب في َص َم ِم‬
       ‫بأم كلثوم في أ َّول لقاء‪ ،‬وأ َّن هذا النص يمثل‬        ‫ولكن الجمهور يتفاعل معها حين تغني‪« :‬فرب‬
                                                          ‫مستمع والقلب في صمم»‪ .‬كانت «أم كلثوم» تمزج‬
                                                              ‫الأغنية باللحن‪ ،‬والكلمة بالنغم‪ ،‬آخذة بمشاعر‬
   40   41   42   43   44   45   46   47   48   49   50