Page 46 - merit 54
P. 46
العـدد 54 44
يونيو ٢٠٢3
ولو سقتني بصا ٍف من حمياها صاحبه تمثي ًل خال ًصا ،وأن فضل أم كلثوم يتجلى
هيفاء كالبان يلتف النسيم بها في قدرتها على التمثل الجسدي والمعنوي لصوره
وينثنى فيه تحت الوشى ِعطفاها ومعانيه ،ونقله من دائرة الكلمة المقروءة إلى دائرة
الصورة المرئية والمسموعة حال الأداء على المسرح،
حديثها السحر إلا أنه نغم
جرت على فم داود فغنّاها ودائرة الصورة المسموعة حال الاستماع إليه،
حمام ُة الأيك من بالشجو طارحها وما يصحبه من استثارة قوى التل ِّقي من الحواس
و َمن ورا َء الدجى بالشوق ناجاها والخيال .فالنص وليد الاستجابة المباشرة لفن أم
ألقت إلى الليل جي ًدا ناف ًرا ورمت
إليه أذ ًنا وحارت فيه عيناها كلثوم(.)35
وعادها الشوق لل َأحباب فانبعثت لكن الحقيقة أن النص الكلثومي قد اعتراه الانزياح،
تبكي وتهتف أحيا ًنا بشكواها
يا جارة الأيك أيام الهوى ذهبت فأم كلثوم التي اعتادت التعديل في النص الأم لم
كالحلم آها لآيام الهوى آها تكن لتقدم« :سلوا كؤوس الطلا» كما هو ،وإنما في
لكن شوقي الذي كتب المقطوعة المكونة من تسعة موضعين هما :الشطر الثاني من البيت الرابع ،الذي
أبيات لأم كلثوم خصي ًصا قد ن َّص على الاسم قص ًدا كتبه شوقيَ “ :و َين ْثن ِي فيِ ِه َتح َت ا ْل َو ْش ِى ِع ْط َفا َها”()36
(يا أم كلثوم َأ َّيا ُم ا َل ْه َوى َذ َه َب ْت) ويدلل البحث على
أ َّن اختيارَ ( :جا َر َة ا ْ َل ْي ِك) له موقعه السياقي الوارد ليكون“ :ويلفت الطير تحت الوشي عطفاها”،
فيه؛ إذ إ َّن البيت السابق على هذا البيت المنصوص والموضع الثاني في صدر الشطر الأول من البيت
عليه ببيتين جاء فيهَ ( :ح ِد ْي ُث َها ال ِّس ْح ُر َ +ح َما َم ُة التاسع والأخير ،فقد كتبه شوقي“ :يا أم كلثوم
ا ْ َل ْي ِك َ +يا َجا َر َة ا ْ َل ْي ِك) ،ويكون هذا الاختيار محق ًقا أيام الهوى ذهبت” ،ليكونَ “ :يا َجا َر َة ا ْ َل ْي ِك َأ َّيا ُم
الرمزية الجامعة بين تعطيل حاسة الرؤية؛ إذ إن ا َل ْه َوى ذهبت”( ،)37وقدمت له رؤي ًة تفسيري ًة ع ْبر
الطير لا ترى بالليل ،ويكون البعد من المحبوب
قد تمكن وهو المقصود ،يبرهن عليه التأوه الناتج أدائها وموسيقاها(.)38
من تكرار فونيم الهاءَ (:آ ًها ِ َل َّيا ِم ا َل ْه َوى َآ َها)؛ ويؤكد ذلك «محمود عوض» مستد ًّل بقول رئيس
للمشاركة الفعالة بين الشاعر وبين المغني ،كما وزراء ماليزيا حين قال لأم كلثوم« :إننا نتعلم اللغة
ينتج عن الاختيار تفعيل حاسة السمع وجمال
الشدو وهو المطلوب إثباته من اجتماع هجين العربية من خلال أغانيك» .فهي في الواقع تقوم
الصوت( :مزمار داوود ،حفيف النسيم ،ترنيمات بعملية تلميع لكلمات علاها صدأ كثير ،فتصبح
الشاعر ،هديل الحمام) ،وهو ما يحقق الاتساق براقة ناصعة ..مفهومة ،إنها تقوم -في الواقع-
بين أجزاء القصيدة؛ إذ إنها اعتمدت على الضمني بالتوسط بيننا وبين اللغة العربية الفصحى ،وساطة
وليس الصريح ،يؤكده توظيف «المطارحة» في مقبولة من الجانبين ،مؤك ًدا كلامه بقصيدة“ :سلوا
قول الشاعرَ « :م ْن ِبال َّش ْج ِو َطا َر َح َها» ،وليسَ « :م ْن كؤوس الطلا” ،فأي صحيفة لو نشرت هذه الأبيات
ِبال َّش ْج ِو صارحها» ،وكأن شوقي تعمد قول شيء لاحتاجت إلى توزيع قاموس معها لشرحها ،قاموس
لم يرد قوله صراحة فآثر قول المتنبي“ :مالي أكتم يوضح معاني“ :الأيك ،والدجى ،والشجو(.)39
حبًّا قد برى جسدي» ،واستمرا ًرا للضمنية عمدت ومنه نستدل على المسمى الذي أطلقه النقاد عليها:
إلى حذف اسمها /المصارحة من البيت السادس
“مطربة النحو والصرف”(.)40
والأخير ،فقد كانا: لكن هذا النص المفعم بالحب قد أهدي لأم كلثوم
سل أم كلثوم َم ْن ِبال َّش ْج ِو َطا َر َح َها قص ًدا ،وقامت بغنائه فر ًضا لا اختيا ًرا ،ومع ذلك
َو َم ْن َو َرا َء ال ُّد َجى ِبال َّش ْو ِق َنا َجا َها
استبدلت بعض ألفاظه:
سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها
واستخبروا الراح هل م ّست ثناياها()41
باتت على الروض تسقيني بصافية
لا لل ُّسلاف ولا للورد رياها
ما ضر لوجعلت كأسي مراشفها