Page 86 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 86
إبداع ومبدعون العـدد 23 84
قصــة نوفمبر ٢٠٢٠
حنان عزيز
المكحلة
تنتهي هي من تأمل المكحلة ،لكنه ظل يبكي ويمرغ لم تنتبه لما حدث إلا بعد أن انتهى كل شيء ،كأن
وجهه في صدرها. أح ًدا أخذها عنوة إلى ماض بعيد ،فلم تنتبه إلى ما
كانت في منتصف الثلاتينات وإن أوحى مظهرها حدث ،لا تذكر سوى أنه في اللحظة التي وقعت
بالعشرينات حين التقته لأول مره في وسط البلد عيناها على المكحلة ،ارتمى في حضنها وبكى ،كان
في إحدى دور النشر ،كانت مع صديقة لها تبحث ينهنه منك ًرا أن تكون الجدة ماتت يا سالي ،وكان
بكاؤه حا ًّرا وصاد ًقا ،وكانت تعرف أن الجدة التي
عن كتاب ما ،هوسها بالقراءة منذ الصغر كان يسميها ماما هي كل شيء بالنسبة له ،فاستسلمت
دو ًما يدفعها إلى اقتناء الكتب وقراءة ما يحلوا لها
منها ،حديثه المندفع مع صاحب الدار في السياسة، للعناق ،وأثر فيها بكاؤه ،لكن عينيها ثبتت على
وحرارة الدماء في عروق شاب أسمر ،والبلد في حالة المكحلة ،هل جاءت هنا من قبل؟ لا تذكر ،لكنها تذكر
ثورة لم تشهدها منذ عشرات السنوات ،وحلم التغير نفس الغرفة ،ونفس المرآة عتيقة الطراز التي تحتل
الذي صار قاب قوسين أو أدنى ،هو ما جعلها تنظر
مليًّا إليه ،تدخلت في الحديث باسمة ،وأخذهم النقاش الجدار المقابل للفراش كام ًل ،الغريب أن المكحلة
كأنهم أصدقاء منذ الصغر ،مد يده إليها قائ ًل :علي، التي عبثت بها قدي ًما في نفس الموضع ،وجدتها التي
فمدت يدها وعرفته بنفسها ،واكتشفت في هذه هرعت إثر فتحها للمكحلة وهي تعبث بها تلوثت
اللحظة أن الحاد في نقاشه والمنفعل والمتحمس ليس أصابعها بالكحل ،نهرتها بلطف ،وقالت« :قولي لي
سوى طفل ،كانت يده في يدها ،فشعرت بأنه طفل، وأنا أحط لك كحل» ،ثم أخذتها ومررت المرود بين
وربما شعر في هذه اللحظة أي ًضا أنها أم ،واكتشفت هدبيها الصغيرين وقالت« :فتحي!» ففتحت عينيها
تعلقه بها ،كان دائم النظر إلى عينيها الواسعتين، الدامعتين ،وقالت« :انظري” ،وأشارت إلى المرآة
ودائم الإشادة بطريقة تكحيلها التي تلفت الانتباه، بعرض الحائط ،واحتضنتها وقالت« :قمر!».
فسألها «عمرك ما فكرتي تشتغلي في الصحافه كان شريكها يمرغ وجهه في صدرها ويبكي ،فيما
أو الإعداد ..أصل الجورنال اللي أنا فيه عامل كانت تواسيه بلسانها ،فقد فتر حماسها وهي
منحة إعداد برامج وجايب فيها أسامي مهمة ج ًّدا صاعدة السلم منذ وجدت باب الشقة مفتو ًحا ،ورأته
وتدريب عملي ..لو مهتمه تعالي هتستفيدي ج ًّدا». منكفئًا على فراشه في حزن ،والمرآة بعرض الحائط،
قالت« :ياريت ..خليني أفكر وأرد عليك» .ولاحظت كانت ستنهره وتطلب منه أن ينزل ،فالناس جاءت
أن تركيزه أثناء الكلام على عينيها ،ولما انتبه إلى
ذلك ،مد يده بكارت به رقم هاتفه وقال« :وأنا في لتعزيه ،هي تعرف أن شريكها مازال طف ًل ،حتى
لو كان في نهاية العشرينات ،بعينين واسعتين لم
الانتظار» .فانسحبت في هدوء عائدة إلى منزلها تغادرهما نظرة اليتم المبكر ،وعلى مدار السنوات
وصدى كلماته يتردد في عقلها. الثلاث السابقة وهو يبدو لها كطفل تاه من أمه في
الزحام ،وكان من المنطقي أن تكون أول من يلجأ
لم لا؟ زوجة شابة وزوجها مشغول دو ًما ولديها إليه في الهاتف صار ًخا «ماما ماتت يا سالي» ،وقد
طفلان كبرا نسبيًّا وحملهما أصبح أخف ،لم لا انتظرت وهو على صدرها أن ينتهي من البكاء ،أو